الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن إجراء جولة الإعادة لانتخابات مجلس الشيوخ 2025 في 5 محافظات    الإيجار القديم.. هل يخالف الإسلام فعلا؟!    التعاون الإسلامي: نثمن جهود مصر تجاه غزة ونطالب بتسريع عمليات إعادة الإعمار    نتنياهو: نستعد لحدوث مفاجأة من إيران    بعد رحيل مودريتش، ترتيب قادة ريال مدريد في الموسم الجديد    بعد حل أزمة الVAR، موعد مباراة أهلي طرابلس والهلال في الدوري الليبي    إحالة أوراق 3 متهمين في قتل شخص بالقليوبية للمفتي    حكاية فلاش باك الحلقة 4، زياد يكتشف تفاصيل صادمة عن علاقة مريم ومروان    1307 مواطنين استفادوا من قافلة طبية مجانية بقرية منشأة شومان في الدقهلية    رحيل الدكتور علي المصيلحي وزير التموين السابق بعد مسيرة حافلة بالعطاء(بروفايل)    مفتي القدس: مصر سند دائم للقضية الفلسطينية منذ النكبة.. والذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز الفتوى الرشيدة    تصاعد الصراع وكشف الأسرار في الحلقة الرابعة من "فلاش باك".. أول ظهور ل خالد أنور    نجوى كرم: أتمنى تقديم دويتو مع صابر الرباعي (فيديو)    غدا.. الفرقة القومية للفنون الشعبية تقدم عرضا بمدينة المهدية ضمن فعاليات مهرجان قرطاج بتونس    «اعرف دماغ شريكك».. كيف يتعامل برج الميزان عند تعرضه للتجاهل؟    حكم الوضوء لمريض السلس البولى ومن يعاني عذرا دائما؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    "الوطنية للانتخابات": 516 ألفا و818 صوتا باطلا بنظام الفردي في انتخابات الشيوخ    محافظ سوهاج فى جولة مفاجئة للمستشفى التعليمى للاطمئنان على الخدمات الطبية    نائب وزير الصحة تجتمع بعميد كلية التمريض دمنهور لبحث ملفات التعاون المشترك    ريال مدريد يرفض إقامة مباراة فياريال ضد برشلونة في أمريكا    ديمبلي: التتويج بدوري أبطال أوروبا كان أمرًا جنونيًا    متحدث باسم الخارجية الصينية: الصين تدعم كل جهود تسوية الأزمة الأوكرانية    الرقابة الصحية (GAHAR) تطلق أول اجتماع للجنة إعداد معايير "التطبيب عن بُعد"    منسقة الأمم المتحدة: إطلاق الاستراتيجية الوطنية للشباب يعكس اهتمام مصر بالرياضة كقوة ثقافية ومحرك للتنمية    الحسيني وهدان يتوج بذهبية الكونغ فو في دورة الألعاب العالمية    وسام أبو علي يستعد للسفر إلى أمريكا خلال أيام.. والأهلي يترقب تحويل الدُفعة الأولى    رامي صبري وروبي يجتمعان في حفل واحد بالساحل الشمالي (تفاصيل)    رئيس جامعة أسيوط يستقبل محافظ الإقليم لتهنئته باستمرار توليه مهام منصبه    ما الحكمة من ابتلاء الله لعباده؟.. داعية إسلامي يُجيب    الشيخ رمضان عبدالمعز: قبل أن تطلب من الله افعل مثلما فعل إبراهيم عليه السلام    ضبط سائق لحيازته 53 ألف لتر سولار بدون مستندات تمهيدًا لبيعها بالسوق السوداء في الأقصر    رئيس الأعلى للإعلام يكرم رائد الإعلام العربي فهمي عمر    ما نتائج تمديد ترامب الهدنة التجارية مع الصين لمدة 90 يوما أخرى؟    وزير التعليم العالي يفتتح المجمع الطبي لمؤسسة "تعليم" بمحافظة بني سويف    كريستيانو رونالدو يطلب الزواج من جورجينا رسميًا    «مصيلحي» و«المصيلحي».. قصة وزيرين جمعهما الاسم والمنصب وعام الموت    غدًا.. قطع المياه عن مدينة أشمون في المنوفية 8 ساعات    خصم يصل ل25% على إصدارات دار الكتب بمعرض رأس البر للكتاب    الطقس غدا.. موجة شديدة الحرارة وأمطار تصل لحد السيول والعظمى 41 درجة    حجز نظر استئناف المتهم بقتل مالك قهوة أسوان على حكم إعدامه للقرار    وزيرة التخطيط تشارك في إطلاق الاستراتيجية الوطنية للشباب والرياضة 2025-2030    "الجمهور حاضر".. طرح تذاكر مباراة الزمالك والمقاولون العرب في الدوري    الوزير يترأس اجتماع الجمعية العمومية العادية لشركة السكك الحديدية للخدمات المتكاملة    وكيل وزارة الصحة بالدقهلية يحيل المدير الإداري لمستشفى الجلدية والجذام للتحقيق    12 أغسطس 2025.. أسعار الأسماك في سوق العبور للجملة اليوم    رسميًا.. باريس سان جيرمان يتعاقد مع مدافع بورنموث    وزير الصحة يبحث مع المرشحة لمنصب سفيرة مصر لدى السويد ولاتفيا التعاون الصحى    12 أغسطس 2025.. ارتفاع طفيف للبورصة المصرية خلال التعاملات اليوم    الرئيس السيسي يستقبل اليوم نظيره الأوغندي لبحث تعزيز العلاقات الثنائية    «تعليم كفر الشيخ» تعلن النزول بسن القبول برياض الأطفال ل3 سنوات ونصف    مصرع طفل غرقا في ترعة باروط ببني سويف    الداخلية تضبط تيك توكر يرسم على أجساد السيدات بصورة خادشة للحياء    انتشال جثمان طفل غرق في بحر شبين الكوم بالمنوفية    "زاد العزة" تواصل إدخال المساعدات المصرية إلى القطاع رغم العراقيل    أمين الفتوى: "المعاشرة بالمعروف" قيمة إسلامية جامعة تشمل كل العلاقات الإنسانية    تنطلق الخميس.. مواعيد مباريات الجولة الثانية من بطولة الدوري المصري    العظمي 38.. طقس شديد الحرارة ورطوبة مرتفعة في شمال سيناء    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ايا صوفيا.. أشهر مسجد ومعلم إسلامي في تاريخ الخلافة العثمانية
نشر في الشعب يوم 16 - 12 - 2006

يحكي "أيا صوفيا" بقبابه ومآذنه العالية قصة أشهر مسجد ومعلم إسلامي في تاريخ الخلافة العثمانية، ومن ورائها دولة الأتراك الحديثة. اشتراه السلطان محمد الفاتح من بين أملاك الروم في مدينة "إسلام بول" من ماله الخاص، وأوقفه مسجداً جامعاً للمسلمين.
ومن وقتها والمسجد يعد من أبرز معالم مدينة الإسلام، وأحد الآثار العظيمة التي بقيت شاهدة على العنفوان العثماني في مواجهة دولة البيزنطيين، في ملحمة "القسطنطينية" التي سجلها التاريخ لواحد من أقوى الحصون الأوروبية.
ويحتل الجامع العريق مكانًا بارزًا أعلى ربوة عند إلتقاء مضيق "البسفور" بمضيق "القرن الذهبي" في القطاع الأوروبي من مدينة "إسلام بول" وهو عبارة عن مبنى ضخم، مربع الشكل، مرتفع الحوائط والجدران، تتوسطه قبة ضخمة مركزية، محاطة بمجموعة من القباب الصغيرة المساعدة، وترتفع أربع مآذن مختلفة الأشكال في زوايا الجامع الأربع.
وكان جامع "آيا صوفيا" قبل الفتح الإسلامي يمثل الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في العالم القديم في مقابل الكنيسة الغربية "الفاتيكان" التي ترعى المذهب الكاثوليكي.. حيث شهدت الكنيسة النصرانية انقساماً، بين الكاثوليك والأرثوذكس، قبل ما يقرب من ألف عام 1054م بسبب الخلاف على من يستأثر بالسلطة البابوية. وكان حوار بين الجانبين يهدف إلى لم الشمل، بدأ عام 1965 ، عندما رفع الجانبان الشلح الذي فرضه كل منهما على أتباع الآخر. ثم ثارت الخلافات من جديد بين الفاتيكيان والكنيسة الأرثوذكسية، بسبب اتهامات الأرثوذكس للكاثوليك بمحاولتهم تحويل البعض إلى الكاثوليكية، وذلك بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. وهو ما ينفيه الفاتيكان.
شرع في بناء "آيا صوفيا" زمن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول ( 324337م ) بدعم مالي من هيلانا زوجة القيصر الروسي، إلا أن وضعه البنائي القائم حالياً تم في العام 537م، على عهد الإمبراطور "لاستينيانوس" الذي جلب مواده من كل أصقاع الإمبراطورية البيزنطية. وحين نجح الجيش الإسلامي بقيادة السلطان محمد الفاتح، في إقتحام أسوار القسطنطينية الشاهقة، وضم القطاع الغربي من مضيق "البوسفور" إلى حظيرة الدولة العثمانية، وضع النهاية لدور "آيا صوفيا" ككنيسة شرقية وبدأ تاريخه كمسجد جامع للمسلمين، حيث تم بناء المآذن في أركانه الخارجية، ووضع الهلال أعلى قبته، وتمت صلاة أول جمعة به العام 857م.
ونظراً لحساسية الخلفية التاريخية ل "آيا صوفيا" فقد عاد وإن لم يتوقف الحديث عن أمجاد الماضي لدى النصارى، وهو ما أثارته زيارة بنيدكت السادس عشر بابا الفاتيكان إلى تركيا، ودخوله "آيا صوفيا" 30112006م، وتجوله في باحاته. حيث لقيت تلك الزيارة معارضةً واسعةً بين أوساط الشعب التركي، سواء بين علماء الدين أو الساسة أو المواطنين قوميين وإسلاميين، على حد سواء، بسبب إساءاته السابقة إلى الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم؛ وبسبب ما وصف بحملته الصليبية الجديدةٌ ضد الإسلام في تركيا، وبسبب مواقفه الرافضة لإنضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ بدعوى أن ذلك سيُضعف ما سماه "الهوية المسيحية" لأوروبا؛ مما دعا العلمانيين إلى الانضمام أيضًا إلى الحملة الرافضة لزيارته.
وقبل أن يتجمع أكثر من مليون مسلم في منطقة "جغلايان" للتظاهر ضد الزيارة، اعتصم نحو 50 شخصًا في مسجد "آيا صوفيا" قبل أن تداهمه الشرطة وتحتجز بعضًا منهم، رافضين تدنيسه من قبل بنديكت السادس عشر والوفد المرافق له، لما تحمله هذه الزيارة من دلالة ورمزية مؤلمة في نفوس المسلمين، وامتهان لأرواح شهداء الفتح الإسلامي لهذه المدينة التاريخية العريقة.
وجاءت زيارة بابا الفاتيكان بعد أقل من ثلاثة أشهر فقط من المحاضرة التي ألقاها مستشهداً فيها بمقولة الإمبراطور البيزنطي (مانويل باليولوجوس الثاني) : " أرني ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) وعندها لن تجد إلا مها هو شرير ولا إنساني، مثل أمره نشر الدين الذي جاء به بحد السيف". وهي مقولة كان قد قالها هذا الصليبي المتعصب على خلفية الحروب الأوروبية مع الدولة العثمانية وما كانت تشكله الأخيرة بجيوشها الإسلامية من مخاطر على القارة العجوز، لم تكتف فيها حتى حاصرت فيينا عام 1529م، ودق المارد الإسلامي أبواب (بطرس بيرج).
وتقول المصادر التاريخية، بشأن الأثر الذي أحدثه فتح "القسطنطينية" على أوروبا : ولقد " استقبلت عواصم الغرب الأوروبي وعلى رأسها كنيسة روما (الفاتيكان) أنباء الفتح الإسلامي بإنزعاج كبير وضيق شديد ". مما أثر بدوره على احتفاظ الفكر الصليبي بجذوره العميقة، في توجيه سياسات بلاد الأفرنج (الصليبيين) وحروبهم ضد العالم الإسلامي. ومن ثم كان تدمير تركيا شغل أوروبا الشاغل، وكانت الممتلكات العثمانية هي الصيد الذي ترنو إليه كل عيونهم.
وتثير نوايا بابا الفاتيكان مخاوف عديدة نظراً للخلفية المتعصبة المأثورة عن الرجل ففي مقابلة أجراها العام 2004 مع صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، أعرب الكاردينال جوزيف راتسينجر، قبل أن يتولى البابوية ويتسمى بنيدكت السادس عشر، عن معارضته لضم تركيا الإسلامية إلى الاتحاد الأوروبي. قائلاً : " إن الجذور التي شكلت أوروبا، إنما هي جذور مسيحية.. أما تركيا فطالما مثلت قارة أخرى، على نقيض مستمر مع أوروبا". وأضاف : " سيكون من الخطأ المعادلة بين القارتين.. إن تركيا تأسست على الإسلام.. ودخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيكون ضد التاريخ ". كما انتقد تردد أوروبا في الاعتراف بجذورها الصليبية، في مواجهة تنامي التواجد الإسلامي بين بلدانها.
ومما زاد من حنق المسلمين الأتراك على هذا الوافد الذي لم يدعه أحد من أهل البلاد انتقاله لكنيسة "جاورجيوس" ولقائه بطريرك الأرثوذكس "برتلماوس الأول" ، وهو اللقاء الذي أثار حوله الشكوك ، حيث يتشكك الإسلاميون والقوميون الأتراك على السواء في أن اللقاء لا يمثل تقارباً بين الكنيستين فحسب, وإنما هدفه تشكيل حلف أرثوذكسي كاثوليكي ضد الإسلام.. يسعى من بين أهدافه إلى الإنقضاض على مسجد "أيا صوفيا" وتحويله إلى كتدرائية للأرثوذكس في العالم. كما يعتقدون أيضاً أن زيارة البابا لمقر البطريركية الأرثوذكسية، تستهدف سيادة البلد، لأنها ستكسب البطريرك الأرثوذكسي وكنيسته صفة عالمية مثل البابا والفاتيكان، بينما تعتبره أنقرة مواطناً عادياً.
حيث رأى المتابعون أن بؤرة تركيز البابا رغم التسليط الإعلامي لم تكن سوى على الوحدة المسيحية بين الكنيستين الشرقية والغربية. وقد نقلت وكالة "رويترز" عن عميد كلية الصليب المقدس اللاهوتية للروم الأرثوذكس، في ماساشوسيتس، توماس فيتجيرالد، قوله : "سيكون من قبيل الرمزية العميقة لقاء هذين الزعيمين المسيحيين الأبرز أهمية.. ستكون هذه زيارة تاريخية لحياة الكنيسة".
أما كبير المؤرخين الأتراك المعاصرين ولا سيما في الفترة العثمانية (خليل اينالجيق) يقول : إن زيارة البابا لا علاقة لها بالحوار بين الحضارات، ولا بالتقارب مع العالم الإسلامي. مضيفاً : أن الزيارة مرتبطة بإعادة التواصل بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، بعدما كانتا قد أعلنتا النية في التوحد ، وتم الإعلان أن زيارة البابا تأتي بهدف إنهاء النزاع بين الكنيستين.
وفي هذا الإطار، تساءل زعيم حزب "السعادة" الإسلامي التركي، رجائي قوتان القريب من نجم الدين أربكان قائلاً : " كم دولة مسيحية زار البابا حتى يزور دولة مسلمة؟.. إن الزيارة واضحة الأهداف ". بينما اعتبر حسن جلال جوزيل الكاتب والسياسي التركي المعروف، أن البابوية كانت على الدوام رأس الحربة في الخطط المعادية لتركيا. مضيفاً : أن هدف الزيارة لا علاقة له بالتقارب بين الأديان ولا الحضارات، بل ضمان وحدة الكنائس.
ولعل هذا ما دفع أحد المتظاهرين الأتراك لأن يحمل لافتة كتب عليها : "لا للحلف الصليبي". في حين كتبت صحيفة "ميلي جازيت" الإسلامية التي تؤيد حزب "السعادة" على صفحتها الأولى : " هنا إسطنبول, وليس القسطنطينية". مضيفة : " سيرى البابا في جغلايان، انه لا يستطيع حجب الشمس بغربال ".
وإذا كانت أبصار جموع المسلمين تتجه صوب "أيا صوفيا" وفاءاً من جهة، واشفاقاً عليه من جهة أخرى في ظل ما يعتقدونه (وهو محقون) يدبر له في الخفاء فليس ذلك سوى لما يمثله المسجد من قيمة تاريخية وعقائدية كبيرة. ففيما يشير إلى دعم أوروبي غربي لا يتوقف للحملات التي تستهدف النيل من الوجود الإسلامي في مدينة "إسلام بول" والصبغة الإسلامية لمسجد "آيا صوفيا" فيها : البرنامج الذي تبثه قناة "تاليستي" الفضائية اليونانية يومياً، ويقدمه قس مسيحي، حيث يتضمن فيلماً مصوراً، يظهر فارساً بيزنطيا بملابس عسكرية، يصحو من كبوته بعد إشارة نورية من المسيح فيفتح أمامه باباً ليجد "أيا صوفيا" أمام عينيه، ويتجه ناحيته شاهراً سيفه، يحطم الهلال الموضوع أعلى قبة المسجد، ويضع مكانه الصليب، ويهدم المآذن الأربعة في أركان المسجد!.. ويعيد آيا صوفيا مقراً للكنيسة الأرثوذكسية.. وهي تقريباً صورة واضحة لما يدور في المخيلة الغربية، حيال أشهر أثر إسلامي في القارة. وقد شنت اليونان وقبرص حملات إعلامية دولية لم تهدأ، حتى اليوم، ضد تركيا لإعادة "أيا صوفيا" إلى النصارى الأرثوذكس، وطالبت المجتمع الدولي بالتدخل لإعادة الجامع ككنيسة، وتسليمه للبطريرك الأرثوذكسي المقيم في بطريريكية إستانبول.
ويمثل "أيا صوفيا" رمز الإسلام في تركيا، منذ أن صلى فيه السلطان محمد الفاتح عام 1453م واتخذه مسجداً جامعاً مع الفتح الإسلامي ل"القسطنطينية" العاصمة المسيحية الشرقية لقرابة ألف عام.. ولقد شهد المسجد أحداثًا ووقائع هامة في تاريخه، وتاريخ العثمانيين، والخلافة الإسلامية أيضاً.
وتقول المصادر التاريخية : إنه وبعد اقتحام الجيوش الإسلامية أسوار القسطنطينية الشاهقة، وفتحهم المدينة العتيقة عنوة، دخلها السلطان محمد الفاتح مع الظهيرة بموكب جليل. ولما أخذ يتفقد أحوالها، وجد حالة من الفوضى والذعر بين سكانها، فأصدر أوامره بمنع أي اعتداء وحماية جميع الأموال والممتلكات، حتى ساد الأمن وسيطر النظام، وهدأت ثائرة النفوس.
وفي خضم هذا النصر الكبير، تشير حقائق التاريخ الناصعة : أن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة، وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، كما افتدى عدداً كبيراً من الأسرى، من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان، ورجال الدين، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا ( أجناديوس) بطريكا، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان ، فاستقبله السلطان بحفاوة بالغة وأكرمه أيما إكرام، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى ، حتى خرج البطريريك من لقاء السلطان يقول : " إني أخجل مما لقيته من التبجيل والحفاوة، الأمر الذي لم يعمله ملوك النصارى ".
ثم توجه الفاتح إلى كاتدرائية "آيا صوفيا"، دخلها مترجلاً عن فرسه، وصلى فيها صلاة الشكر لله تعالى على هذا الفتح العظيم، ولما حان موعد الصلاة، أمر السلطان برفع الأذان فيها، وصلى ومن معه من القادة والجند صلاة العصر، ثم أمر الفاتح بتحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد جامع، وأمر بأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة، ومن ثم أخذ العمال يعدون لهذا الأمر، فأزالوا الصلبان والتماثيل، وعملوا منبراً للخطيب.
وعن سبب تحويل الكنيسة لمسجد، تشير مصادر التاريخ إلى أن الجيش الإسلامي حين دخل القسطنطينية، وجد هذه الكنيسة الضخمة مهجورة ولم يعد يستخدمها أحد، وأنها ستتحول بمرور الوقت لمكان يبيت فيه الثعابين والحشرات والزواحف وطيور النورس البحرية، المنتشرة بمضيق البوسفور وبحر مرمرة. حيث أشارت الروايات التاريخية إلى أن جموع من الأهالي تركوا المدينة وانتقلوا إلى مناطق في إتجاه الغرب اليونان وقبرص وذلك على إثر الفتح، وهو الأمر الذي جعل من الكنيسة الضخمة مرتعاً للحشرات والزواحف. وفي نفس الوقت لم يكن بالقسطنطينية مكان معد لأداء الصلاة، لكل هذا العدد الضخم من أفراد الجيش العثماني.
ولما عرض السلطان ورجال الدولة الأمر على شيخ الإسلام "آق شمس الدين" ومن معه من علماء الإسلام، أفتوا بجواز تنظيف الكنيسة وتحويلها لمسجد يصلي فيه المسلمون، بعد إزالة الصليب الذي كان يعلو القبة الرئيسة، وبناء مئذنة في أحد أركانه، ووضع منبر بصحن الصلاة.
ورغم أنه يجوز تحويل الكنسية إلى المسجد، لأن المدينة فتحت عنوة، والعنوة لها حكمها في الشريعة الإسلامية، إلا أن الوثائق التاريخية تؤكد أن السلطان محمد الفاتح بعد أن جعل "القسطنطينية" عاصمة الخلافة العثمانية، وأطلق عليها "إسلام بول" أي مدينة الإسلام اشترى "أيا صوفيا" من بين أملاك الروم بماله الخاص، عكس ما يدعي البعض من أن المسلمين استولوا عليها بالقوة، وأوقفها مسجداً للمسلمين، بعد أن أقام له أربع مآذن.
وقد وصف الفيلسوف الفرنسي الشهير "فولتير" موقف المسلمين الأتراك من النصارى البيزنطيين بعد هزيمتهم، بقوله :" إن الأتراك لم يسيئوا معاملة المسيحيين كما نعتقد نحن والذي يجب ملاحظته أن أمة من الأمم المسيحية لا تسمح أن يكون للمسلمين مسجداً في بلادها، بخلاف الأتراك، فإنهم سمحوا لليونان المقهورين بأن تكون لهم كنائسهم".
وقد نظر العثمانيون والأتراك فيما بعد لهذا المسجد طوال تاريخهم ، على أنه رمز للفتح الإسلامي للقسطنطينية ودخول "إسلام بول" وما بعدها من أراض غربية لحظيرة الخلافة الإسلامية؛ ولذا حظي الجامع باهتمام ورعاية السلاطين والباشاوات والأمراء ورجال الدولة العثمانية.
وبالرغم من امتلاء إستانبول بعشرات الجوامع التاريخية الضخمة والجميلة مثل جامع السليمانية، وفاتح، ونور عثمانية، وسلطان أيوب، والسلطان أحمد، ومهرماه سلطان، ويني جامع، وشاه زاده فإن لجامع "آيا صوفيا" مكانة مهمة في نفوس المسلمين الأتراك؛ لذا كان المكان المفضل للصلاة وخاصة الصلوات الجماعية (الجمعة والأعياد والتراويح).
فقد ظل مسجد "آيا صوفيا" شامخاً طيلة هذه القرون تتردد في جنباته كلمة الله، حتى بداية القرن العشرين. ومع سقوط الخلافة العثمانية عام 1923م، وما استتبعها من قيام نظام علماني بقيادة كمال أتاتورك، اتخذ قرارات خطيرة التأثير بمسيرة الإسلام في تركيا، مثل إلغاء وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، وإلغاء منصب شيخ الإسلام والمفتي، واستبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الغربية، ثم تغييره حرف كتابة التركية من العربية إلى اللاتينية، وقراءة القرآن بالتركية، وتتريكه الأذان.
كانت هذه القرارات بمثابة المقدمة، التي انتهت بإصدار قرار حكومي العام 1934م، يقضي بوقف الصلاة في الجامع، ونزع سجاجيده ولوحاته المكتوبة بالعربية، ومنبره، وتحويله إلى متحف سياحي. وذلك تقرباً لأوروبا الصليبية، وفي مخالفة علنية لشروط الواقف وهو السلطان محمد الفاتح الذي نص في وثيقة الوقف على أن : من يحاول تغيير هذا الجامع، ومنع الصلاة فيه، فهو ملعون إلى يوم القيامة.
وقد أصاب القرار جموع الشعب التركي المسلمة، بصدمة كبيرة، وفتح جرحاً غائراً لم يندمل بعد. ولم يتمكن أحد من أهل السياسة في عصر أتاتورك بالمطالبة بالعودة عنه، وإن كان قِطاع من علماء الإسلام مثل : خوجه راسم أفندي أبدى اعتراضاً عليه، ونال على ذلك العقاب والتنكيل من نظام أتاتورك. حيث لم يبال أتاتورك ولا أحد من رجال الجمهورية العلمانية الجديدة، بالاعتراضات الشعبية على القرار، واعتقلوا وسجنوا كل من قاوم تطبيقه.
وفي هذا السياق، يرى الكثير من أبناء الشعب التركي أن غلق "آياصوفيا" في وجه المصلين المسلمين، عبارة عن "بند سري" ورد في الاتفاقيات التي وقعها (آتاتورك) مع الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى 14 1918م.
كما يرى مراقبون في قيام "المعهد الأمريكي البيزنطي" عام 1931م، بأعمال حفر وبحث في أطراف الجامع، على أيدي الأثري الأمريكي (تي وايت مور) وبموافقة أتاتورك. فضلاً عن الاستمرار في هذا العمل حتى عام 1970م، وعدم قدرة رؤساء الحكومات التركية القوية مثل عدنان مندريس أو سليمان ديميريل أو تورجوت أوزال أو حتى أردوغان على إعادة الصلاة بالجامع، إشارة واضحة وقوية لدور الغرب في إستمرار منع الصلاة، وتجميد الجامع على وضعية "متحف أثري تاريخي بيزنطي".
وبعد الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980م، سمحت الحكومة التركية بفتح قسم صغير من الجامع لأداء الصلاة، ثم ما لبثت أن عادت وأغلقته. ورغم مرور حوالي 20 عاماً على بدء بعض ترميمات فيه، تستمر عمليات منع الصلاة من قبل السلطات، على ما يبدو وكأنها مجرّد حجة مستمرة لغلق ساحة الصلاة بشكل مُقنع لمنع أي محاولة جماهيرية لإقامة الصلاة في الجامع، خصوصا وأنه منذ منتصف الثمانينيات ظهرت مجموعة دينية في إستانبول من الشباب الإسلامي يقودها (مسلم جوندوز) تطلق على نفسها "آجمنديلار: العَجزة" تقوم بحركات اعتراض ومقاومة أمام الجامع بين الحين والآخر، من أجل حث الحكومة التركية على إعادة الصلاة فيه، إلا أن قوات الأمن دأبت على اعتقال أفراداً منهم، ويصدر القضاء التركي أحكامه بسجنهم من آن لآخر.
ولم تنته قصة "أيا صوفيا" مع هذا السيناريو، إذ تعود قضية هذا المسجد التاريخي العريق إلى الواجهة من جديد، خاصة في ظل اشتعال جذوة الصحوة الإسلامية المباركة، والتي أخذت تطوف أرجاء الأرض تحي الإسلام في نفوس أبنائه من جديد.. ومن ثم، شرع الأتراك يطالبون من وقت لآخر برفع هذا الحظر الذي فرضه العلمانيون على بيوت الله، وإعادة الأمور على ما كنت عليه قبل عام 1934م.
فقد طالب حزب "الرفاه" الإسلامي عام 1995م بفتح المسجد للصلاة. وكان الزعيم الإسلامي ورئيس الحكومة التركية الأسبق نجم الدين أربكان، قد تعرض للمحاكمات العديدة من وراء دعوته ومطالبته بفتح الجامع أمام المسلمين الأتراك.
وكانت المحكمة الإدارية بأنقرة رفضت يوم 24 يونيو 2005م، السماح بإعادة الصلاة في " آيا صوفيا" بعد دعوى تقدمت بها جمعية "الحفاظ على الآثار التاريخية والبيئة"، وأيدت المحكمة استمرار قرار حكومة أتاتورك والإبقاء على الجامع كمتحف سياحي ، معتبرة أن القواعد الواردة (إسقاط القرار الإداري نهائيا بعد مرور 70 سنة حتى لو كان محصنا بقرار قضائي) في قانون المحاكمات الإدارية لا محل لها في هذه الدعوى.
وكان مسجد "آياصوفيا" ومازال محلاً للجدال والنقاش الدائم، على جميع الأصعدة، داخل تركيا وخارجها، وما من حدث كبير أو صغير بشأنه إلا وتتحول له أبصار المسلمين، وأيديهم على قلوبهم، خوفاً على ما قد ينال من هوية هذا الجامع الشامخ فوق التاريخ. وكان شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله ممن عبر عن خوفه الشديد على مصير "أيا صوفيا" وذلك بعد سقوط الخلافة الإسلامية, فكتب قصيدة مؤثرة تنضح بالعاطفة الصادقة, والغيرة المخلصة على هذا المعلم الإسلامي. والقصيدة بعنوان "أيا صوفيا" :
أيا صوفيا حان التفرق فاذكري
عهود كرام فيك صلَّوا وسلموا
إذا عُدتِ يوما للصليب وأهله
وحلّى نواحيك المسيح ومريم
ودُقّت نواقيسً وقام مزمر
من الروم في محرابه يترنّم
فلا تنكري عهد المآذن إنه
على الله من عهد النواقيس أكرم
تباركت بيت القدس جذلان آمن*
ولا يأمن البيت العتيق المحرّم
أيرضيك أن تغشى سنابك خيلهم
حماك وأن يُمنى الحطيمُ وزمزمُ؟
وكيف يذل المسلمون وبينهم
كتابك يُتلى كلَ يومٍ ويُكرمُ!
نبيُّك محزونً وبيتك مطرقً
حياء , وأنصار الحقيقة نُوّمُ
عصينا وخالفنا فعاقبت عادلا
وحكّمت فينا اليوم من ليس يرحم !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.