أظرف نكتة هو استطلاع الرأي الذي أجرته الإذاعة “الإسرائيلية” مؤخراً، وسألت فيه “الإسرائيليين” عما إذا كانوا يعتقدون أن مفاوضات المسار السوري ستؤثر سلباً على المسار الفلسطيني. لماذا هي نكتة؟ ليس فقط لأن المفاوضات السورية “الإسرائيلية” ستبقى من الآن وحتى إشعار آخر مجرد “علاقات عامة” هدفها تحسين المواقع وتلميع الأوراق انتظاراً لما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بل أولاً وأساساً لأن المسار الفلسطيني لم يعد موجوداً. فاتفاقات أوسلو، التي لا تزال تجري المفاوضات على أساسها، باتت أثراً بعد عين. وخيار الدولتين الفلسطينية و”الإسرائيلية” اللتين تتعايشان بسلام ووئام في إطار جنة شرق أوسطية اقتصادية، يلفظ الآن أنفاسه الأخيرة، ويفسح في المجال أمام عودة تاريخية لخيار الدولة الواحدة ثنائية القومية على كل أرض فلسطين. محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الذي توّجه إلى البيت الأبيض في24 إبريل/نيسان الماضي، حاملاً عريض الآمال بأن يحصل من الرئيس بوش على تعهدات تنقذ اتفاقات أوسلو من الاندثار، غادر واشنطن وهو واثق بأن هذه الاتفاقات باتت تنتمي إلى رفوف التاريخ. آنذاك، سرت تكهنات قوية بأن عباس سيعلن استقالته من منصبه ومعها النعي الرسمي لخيار الدولتين، وسيدعو للعودة إلى خيار الدولة الديمقراطية الواحدة ثنائية القومية. وبرغم أن عباس نفى هذه التكهنات لاحقاً، إلا أنه لم يستطع نفي التقارير الأخرى التي تشير إلى أن هذا التوّجه أصبح رسمياً على جدول أعمال حركة “فتح”، أو على الأقل على طاولة العديد من قياداتها. أحد هؤلاء، زيد أبو العين، دعا علناً قبل أسبوعين إلى التخلي عن الجهود لإقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. فالأوان، برأيه، فات لتحقيق هذا الهدف “بفعل المتغيرات الديموغرافية والسياسية”، ويجب على “أمم العالم، كما يهود “إسرائيل”، دعم قيام دولة ديمقراطية علمانية واحدة في كل فلسطين التاريخية الممتدة من سواحل البحر المتوسط إلى ضفاف نهر الأردن. قبل هذه التطورات بأشهر قليلة، كان مشروع الدولة الواحدة ثنائية القومية يقفز فجأة إلى الساحة الدولية بعد أن أصدرت عشرات الشخصيات الفلسطينية و”الإسرائيلية” والعربية والدولية في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2007 ما أسمي “إعلان الدولة الواحدة” الداعي إلى إقامة دولة موحّدة تستند إلى المساواة وحقوق الإنسان والاعتراف بالروابط التاريخية لليهود والفلسطينيين في كل أراضي فلسطين التاريخية. المهم في هذا البيان لم يكن فقط خلاصاته بل أيضاً مقدماته. فهو اعتبر أن الجهود التي بذلت خلال العقود الأخيرة لتطبيق حل الدولتين فشلت في توفير العدل والسلام للشعبين الفلسطيني و”الإسرائيلي”، وهذا لأن مثل هذا الحل يتجاهل الحقائق المادية والسياسية على الأرض، ويفترض وجود مساواة زائفة في السلطة ومزاعم أخلاقية بين شعب مستعمر، من جهة، وبين دولة مستعمرة (بكسر الميم) ومحتل عسكري، من جهة أخرى. انقلاب كبير؟ حتماً. وتاريخي أيضاً. لكن يبدو أن الإذاعة “الإسرائيلية”، ومعها غالبية “الإسرائيليين”، ما زالوا يعيشون “خارج التاريخ” فيطرحون أسئلة في العام 2008 كان يجب ان تطرح في العام ،1998 وهذه “غيبوبة” لن يكون ثمنها لاحقاً سوى تحويل “إسرائيل” إلى جنوب إفريقيا أخرى، وفلسطين إلى جزائر أخرى.