حزب الوعي يحدد معايير اختيار المرشحين لانتخابات مجلس النواب    الحكومة تعلن انخفاض أسعار السلع والسيارات والأجهزة الكهربائية بنسبة تصل إلى 35%    البورصة المصرية تخسر 3.2 مليار جنيه في ختام تعاملات الاثنين    محافظ المنوفية يترأس مجلس إدارة المنطقة الصناعية بقويسنا ويؤكد دعمه الدائم لقطاع الاستثمار    مصر وقطر تؤكدان أهمية التوصل لإتفاق وقف إطلاق النار في غزة    ختام دورة تطوير مدربات ناشئات كرة القدم بالتعاون بين الاتحادين المصري والنرويجي    دفاع السائق في قضية مطاردة فتاتي طريق الواحات: موكلي لا يعرف باقي المتهمين وتصادف مروره بجانبهم في الواقعة    «ثقافة بلادي».. جسر للتواصل والتنوع بين طلاب الأزهر والوافدين    درويش يعتلي صدارة شباك تذاكر السينما في مصر.. تعرف على إيراداته في 5 أيام    هيفاء وهبي تستعد لطرح ألبومها الجديد وتتعاون مع توما وعزيز الشافعي    تفاصيل الزيارة المفاجئة لمدير الخدمات الطبية بأسيوط لمستشفى الحميات بحى غرب    «الدواء» تحذر من عبوات مغشوشة لمضاد حيوي مشهور للأطفال (تعرف عليه)    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    إسرائيل تقرر سحب تأشيرات الإقامة لممثلي أستراليا لدى السلطة الفلسطينية    الرئيس السيسى يستقبل رئيس وزراء قطر ويؤكد على الإرادة المشتركة للارتقاء بالعلاقات    قرار جمهوري بترقية عدد من مستشاري هيئة قضايا الدولة    هام وعاجل من التعليم قبل بدء الدراسة: توجيهات للمديريات    رئيس مجلس أمناء الجيزة: البكالوريا تصنع الحافز وتغذي الحلم لدى الطلاب    استقالة رئيس صندوق مصر السيادي السابق من عضوية شركة نايل سات    نزع ملكية أراضي وعقارات لإنشاء محور دار السلام على النيل    محافظ سوهاج يتابع انطلاق البرنامج التدريبي "المرأة تقود"    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    أكرم القصاص: مصر قدمت 70% من المساعدات لغزة وقادرة على تقديم المزيد    البحوث الفلكية: غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    نسف للمنازل وقصف إسرائيلي لا يتوقف لليوم الثامن على حي الزيتون    إندبندنت: احتجاجات تل أبيب الأكبر والأعنف للمطالبة بوقف الحرب على غزة.. صور    طريقة عمل الكريب، أكلة سريعة ومناسبة لأجواء الصيف    "ما السبب؟".. رد حاسم من لجنة الحكام على طلب الأهلي بإيقاف معروف    "كان بيطفي النار".. إصابة شاب في حريق شقة سكنية بسوهاج (صور)    الفنانة مي عز الدين تخطف الأنظار فى أحدث ظهور من إجازتها الصيفية    أرباح "أموك" للزيوت المعدنية ترتفع طفيفا إلى 1.55 مليار جنيه في 6 أشهر    بعثة يد الزمالك تطير إلى رومانيا لخوض معسكر الإعداد للموسم الجديد    رسميا.. طارق فايد رئيسا تنفيذيا للمصرف المتحد    "عين شمس" ضمن أفضل 700 جامعة عالميا وفق تصنيف شنغهاي 2025    مقترح برلماني لتعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا    الجمعة.. ويجز يحيي حفلًا بمهرجان العلمين    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    غرق شاب بأحد شواطئ مدينة القصير جنوب البحر الأحمر    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    أسعار اللحوم اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025 في أسواق الأقصر    مؤتمر صحفي مشترك بين وزير الخارجية ورئيس وزراء فلسطين أمام معبر رفح    «التعليم» ترسل خطابًا بشأن مناظرة السن في المرحلة الابتدائية لقبول تحويل الطلاب من الأزهر    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    قوة إسرائيلية تفجر منزلًا في ميس الجبل جنوب لبنان    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صناعة الجوع في العالم العربي
نشر في الشعب يوم 19 - 04 - 2008

لو كان ثمة من ناظم مشترك يجمع الحكومات العربية في مواجهة شعوبها بداية هذا القرن، فلن يكون مقتصرا فقط علي استبداد نظم الحكم، وتوريث ذات النظم للعائلة أو العشيرة أو الطائفة أو العرق أو ما سواها، بل وأيضا عجزها عن إطعام شعوبها، وتركها وجها لوجه مع آفات الفاقة والفقر والجوع.
هو ناظم مشترك بامتياز، تتساوي بظله الدول المتخمة بالغني والثروة والمال، المملوءة الخزائن بما طاب ولذ من العملات، مع الدول الفقيرة المعدمة الإمكانيات، المنعدمة الحيلة من أمامها ومن خلفها، ومع الدول ذات الأراضي الفلاحية الشاسعة، ورؤوس الأغنام والمواشي المتنوعة، وأبناؤها يتضورون جوعا، يتقزز المرء لدرجة الغضب والانتفاض من رؤيتهم بالفضائيات حفاة، عراة، جياعا، تتلوي أعينهم بجماجمهم ويلف الذباب القاتم الزرقة أجسادهم، تماما كالموتي/الأحياء.
والواقع أنه لا تكاد تخلو دولة عربية، مطلع هذا القرن (ومن قبل متمه أيضا)، إلا وكانت مكمن ثورات للجياع، رفعوا ويرفعون خلالها لافتات تطالب بالخبر، بمجرد الحق في الخبز، أو مصطفين بطوابير طويلة، بانتظار تحصيل بعض أرغفة خبز، أو بعض كيلوغرامات من الدقيق لسد رمق الأبناء:
فمصر التي يخترقها النيل، مصدر الأساطير والإلهام، والمتحصنة خلف رافعة السد العالي الخالد، لم تستطع حكومتها الحالية ولا الحكومات السابقة، إتاحة رغيف الخبز للملايين من سكانها، فدفعتهم لينتظموا آناء الليل وأطراف النهار، بطوابير عريضة غالبا ما تتحول إلي فتنة كبري أمام المخابز، فتنة بين الجياع، عمن بمستطاعه تحصيل وجبته المدعمة قبل الآخرين، وإلا فالشهادة من نصيب من يموت في الزحمة، بمنطوق فتوي الشيخ/النائب يوسف البدري... صاحب الفتاوي بمجلس الشعب.
وفي المغرب، صاحب المشروع المجتمعي الديمقراطي والحداثي ، رفعت الحكومة يدها عن دعم الدقيق (والزيوت ومشتقات الطحين والحليب وما سواها)، فدفعت قسرا بالجماهير، للتظاهر ضد نار الأسعار بأكثر من مدينة، كانت مدينة صفرو في خضمها الأسبق إلي إعلان انتفاضة الخبز ، فقتل بها من قتل، واعتقل من اعتقل، وحكم علي العديد منهم بالسجن أو بالغرامة أو بهما معا، لا، بل بات الناس يخشون الجهر بتذمرهم، مخافة متابعتهم وتلفيق التهم لهم، علي هذه الخلفية المصطنعة أو تلك... بظل قضاء ظالم، ممعن في الظلم.
وفي اليمن، قررت الحكومة رفع سعر رغيف الخبز بالعاصمة بنسبة 100 بالمائة مرة واحدة (مع تركها لقرار تحديد نسبة زيادة الأسعار في بقية المدن، للمسؤولين المحليين وللمحافظين)، فخرج الجياع للشارع هاتفين محتجين، بظل صمت أحزاب للمعارضة تكاد تكون، بضغط من السلطة، غير عابئة بما يجري، لا، بل إن العديد من اليمنيين اعتبروا الزيادات الأخيرة، حكما بالإعدام عليهم، بالقياس إلي ما يتقاضونه من أجور أو معاشات أو بالقياس إلي تردي الواقع الاقتصادي العام القائم.
وفي لبنان وسورية، حيث عدد السكان ضئيل للغاية، ارتفعت أسعار رغيف الخبز المدعوم بمستويات قياسية، فاضطر السكان في أكثر من مدينة وقرية إلي الانتظام بطوابير طويلة، للحصول علي حصصهم من الغذاء البدائي، بعد ساعات من الانتظار والازدحام، انتظم به الرجل والمرأة جنبا إلي جنب، ودونما قليل من تحرش ناعم وخشونة متبادلة.
وفي السعودية التي تدعي توفرها علي الاكتفاء الذاتي من محصول الزرع والضرع، ظهرت الطوابير أمام المخابز بقوة، إما جراء تقليص بعض المخابز لإنتاجها من الخبز، أو بسبب إغلاق البعض الآخر لأبوابه، علي خلفية ما بات يعرف في أرض الحرمين الشريفين بأزمة الدقيق.
ففي الطائف والمراكز الملحقة بها مثلا، أصبح هم المواطن الأول هو الحصول علي رغيف خبز لأولاده، في ظل تقليص عدد من المخابز كمية الإنتاج، وزيادة السعر، حيث أصبح سعر الرغيف الآن ريالا، فيما قامت بعض المخابز بوضع لافتات تقول: نعتذر لعدم توفر الخبز .
ليست الحالات السابقة حالات نشاز، أو حصرا علي ذات الدول، بل أضحت معطي مشتركا مع دول عربية أخري، بالأردن، بالجزائر، بتونس، بالسودان، بموريتانيا، ناهيك عن غزة والعراق، لدرجة بات الجوع معها يتجاوز علي الحدود الجغرافية، علي طبيعة النظم السياسية، وعلي عدد السكان أيضا.
وبقدر تشابه واقع حال الشعوب العربية بإزاء الجوع، فإن مسوغات الحكومات بدورها لا تختلف كثيرا من دولة لأخري، بل تتماهي مع بعضها البعض لدرجة التطابق:
فالحكومات إياها سوغت لحالات الغلاء المرتفع التي طاولت القمح والدقيق والخبز، بمعطيات السوق العالمي للحبوب، الذي عرف تراجعا في منسوب العرض، وأيضا بحالات ضعف الإنتاج المحلي، بسبب من هذا المعطي الطبيعي الموضوعي أو ذاك.
وهي سوغت لذلك بقلة الحيلة لزيادة المعروض الداخلي، وضعف ذات البين لاستيراد ما يجب استيراده من الخارج، لسد حاجيات السوق الداخلي، ناهيك عن الدفوعات الأخري، من قبيل دفوعات تلاعب التجار وأصحاب المخابز بأرصدة الدقيق والخبز، وعدم امتثالهم لما تفرضه اللوائح والتشريعات من مستوي في الأسعار.
وهي سوغت له أيضا، بالقول بأن العملية برمتها محكومة بنظرية العرض والطلب، وبأن مستوي الأسعار يتحدد علي هذا الأساس وعلي أساسه فقط، ولا يد بالتالي للحكومات في ذلك، لا بل لا حق لها بالمطلق في التأثير علي منطق السوق، في ظل انفتاح الأسواق، وسيادة مبدأي المنافسة وحرية تحديد مستويات أثمان السلع والمنتوجات.
قد يكون في هذه المسوغات بعض من عناصر الصواب، إذ أن السوق العالمية للحبوب تعرف حقا احتكارات كبري (من لدن أمريكا، وأوروبا، وأستراليا ونيوزلندا، وبعض دول أمريكا اللاتينية) تجعل منسوب المعروض متحكما فيه، لا بل مثبتا بمستويات دون بلوغها تحرق المحاصيل وتدمر، وتعطي أعلافا للحيوان، عوض أن تعرض ب سوق البشر بالخسارة، أو بربح لا يرضي أصحابها. إلا أن الذي تتغافله المسوغات إياها إنما ثلاثة معطيات جوهرية، لم يعد بإمكان أحد التستر عليها بالشكل، أو التغاضي عنها بالمضمون:
إنها تتغافل وتتستر علي واقع الفساد المستشري من بين ظهراني أجهزة كل هذه الدول، والتي تدلل ليس فقط علي فشل السياسات التي اعتمدتها هذه النظم بالجملة والتفصيل، بل وتحديدا فشلها هي، كمنظومة في الحكم ونمط من التسلط. إن أزمة هذه النظم إنما هي من أزمة اختيارات أفرزت الفساد والاستبداد، وأهدرت الموارد، وانحازت للأغنياء والأثرياء الجدد، الذين تفتقوا كالفطر الماسخ، عن سياسات اللبرلة والتحرير والخوصصة وتدمير القطاع العام، وأصبحوا بفعل ذلك، لا يعيرون أدني اعتبار لماهية الدولة أو القانون أو المصلحة العامة أو ما سواها.
إن ما ترتب عن سياسات الانفتاح بظل العولمة التي نهجتها نظم الجوع منذ مدة، إنما خلق فرص التربح المجانية، وسبل تكوين الثروات الطائلة المتأتية من المصادر الطفيلية، كما من نهب المال العام، كما من السمسرة والعمولات وتهريب ملايير الدولارات المنهوبة من بنوك القطاع العام للخارج، كما من التحايل المضمر عليها، عبر عمليات في الخوصصة مشوهة، غير مقننة، ومتجاوزة علي خاصية الملك العام المشترك، العصي علي التصريف والارتهان.
وهي تتغافل تواطؤ ذات النظم مع أباطرة الفساد، لدرجة تطابق المصالح بينهما وتشابكها، فيصبح الثاوي خلف المال العام، مصدر نهبه، أو تبذيره، أو ارتهانه من لدن قطاع طفيلي يقتات من صفقات مشبوهة تمنح له دون مساطر أو موجب حق يذكر.
إن جذر أزمة ما أسميناه هنا بظاهرة الجوع، متأت بالأساس من فساد عام منظم، مدعوم بتسلط واستبداد سياسي وأمني، تقوده نخبة متحالفة من كبار مسؤولي الدولة، أو ممن حظوا بصلات النفوذ والمصاهرة والولاء الزبوني، وتداخل السياسة بعالم الأعمال الخاص، السري والعلني، في تفاعلية قاتلة لا مثيل لها بالمطلق إلا بزمننا الحاضر.
ثم هي تتغافل لدرجة التستر، علي ما يمكن وصفه بإيديولوجيا التجويع، والتي ما فتئت النظم الحاكمة بالعديد من الدول العربية تنتهجها كنمط تسيير، وأداة في تدبير القائم والقادم. هل من المعقول أن تحقق شركات كبري بمصر والمغرب والأردن أرباحا مهولة، لا بمجهود يذكر، بل بالزيادة الأحادية في الأسعار؟ هل من المعقول أن يتقاضي مدير عام اتصالات المغرب أضعاف ما يتقاضاه الوزير الأول بالمغرب، ودوره لا يتعدي اقتناء مستجدات الغرب وإعادة بيعها للمغاربة دون جهد يذكر، وبأسعار غير اقتصادية بالمرة فضلا عن ذلك؟
إن وضع قطاعات استراتيجية كبري وحيوية لحياة البشر بين أيادي نخبة محدودة من كبار محتكري عمليات الاستيراد والتصدير، والنقل التجاري والشحن البحري وناهبي المال العام، وعلي رأسهم من يحتكرون استيراد وإنتاج وتوزيع وتحديد أسعار سلع استراتيجية، مثل المواد الغذائية والأدوية والإسمنت وحديد التسليح ، إنما هو بمثابة وضع رقاب البشر بين أياد دونها ودون مصالحها الآنية حرق الأخضر واليابس.
كيف يا تري لنظم تمتهن ذات السلوك أن تكون الديمقراطية نهجها، أو يكون تطلعها موجها نحو بناء دولة الحق والقانون؟
إننا نقولها بالصريح الواضح: إن الذي يحكمنا بالعالم العربي اليوم إنما العصابات المتخصصة والمافيات السرطانية، إنها العنزة الجرباء التي تدعي قيادتنا، لكن مقابل ارتهان كل شيء لفائدتها. ها هي اليوم ترهن ما تبقي. ترهن رغيف الخبز الذي يسد الرمق، مجرد سد الرمق الذي يلغي المسافة بين الحياة والموت، ولا تترك سبيلا يذكر للفقير كي يعيش فقره تماما كما يعيش الشيخ شيخوخته، وهو بأرذل العمر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.