فكرة الإعجاز العلمى فى القرآن، شأنها شأن كثير من الأفكار الجديدة التى بمجرد أن تولد، يثار حولها الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض، ومع مرور الوقت، فإنها إما أن تستمر بما لديها من قوة وحيوية ودينامية تستطيع من خلالها أن تقتنص مشروعية وجودها وتواجدها، وأن تتغلب على ما يواجهها من معوقات وصعوبات، فتستقر وتنمو وتتطور إلى أن تصبح واقعا حقيقيا، وإما أن تذبل وتلفظ أنفاسها على الرغم من محاولات إسعافها من قبل المتعاطفين معها، وذلك لأنها لا تمتلك القدرة الذاتية على البقاء والصيرورة والاستمرار، وهى بهذا تشبه ما يشير إليه المصطلح المستخدم فى علم البيولوجى، والمعروف ب«البقاء للأصلح» أو survival of the fittest وهو المصطلح الذى استخدمه الفيلسوف البريطانى «هربرت سبنسر»، ثم استعاره «داروين» فيما بعد فى إحدى طبعات كتابه عن أصل الأنواع أو on the origin of the species، مرادفا لمصطلح «الانتخاب الطبيعى» أو natural selection . وبشكل عام فإن هناك الكثير من الأفكار صارت حفريات تاريخية، وهناك أفكار أخرى ترسخت واقتربت من أن تكون حقيقة لا تقبل الجدل. ونحن فى وقت من الأوقات كنا نستمع إلى آراء بعض المعارضين لفكرة الإعجاز -وهم قلة لا تذكر- حتى وإن حاول البعض أن يوهمنا بأن هناك أسماء كبيرة قد أبدت اعتراضها، فهو استثناء لا يلغى قاعدة أن جمهور الأمة بمختلف تخصصاتها وتوجهاتها قد تلقتها بالقبول حتى وصل الأمر إلى ما يشبه الإجماع. وكما أشرنا من قبل فإن فكرة الإعجاز العلمى قد شقت طريقها بقوة إلى العالم الغربى، وخاصة بعد كتاب «موريس بوكاى»، الطبيب الفرنسى، الصادر عام 1976، والذى عقد فيه مقارنة علمية بين القرآن والتوراة والإنجيل، والذى أعلن من خلاله أن القرآن يتوافق مع العلم بخلاف الكتب المقدسة الأخرى. لقد أصبح الإعجاز الآن هو أكثر الوسائل تأثيرا فى المجتمعات الغربية والتى بسببه ازدادت أعداد المعتنقين للإسلام. وهو ما أقلق المؤسسات الغربية فبدأت تجيش الأتباع من أجل إبطال rebuttal ودحض الفكرة من أساسها. ويبدو أن القلق الغربى، إضافة إلى الشهرة التى حظى بها العلماء الذين يتحدثون عن قضايا الإعجاز العلمى، يبدو أن ذلك قد أصاب العلمانيين العرب أيضا بنوع من الهيستيريا، فلجأ بعض الكتاب المبتدئين منهم إلى التهكم الرخيص والسوقى على هؤلاء العلماء -على الرغم من اعترافنا بأخطاء بعضهم- لكن أن طلف عليهم بهلوانات الإعجاز، وأوصاف أخرى غير لائقة، وتنم عن سوء أدب وجهل، ثم بعد ذلك تمتد الإساءة إلى القرآن ذاته، فهذا أمر لا يمكن السكوت عنه، ونستطيع نحن أيضا أن نمارس الأسلوب الساخر نفسه ضد هؤلاء المسيئين، وقد بدأنا بالفعل وأثبتنا أنه لا أسهل من التطاول والتجريح والسخرية، لكننا آثرنا أن نلجأ إلى الأسلوب العلمى القائم على المناقشة والتحليل والتفكيك، لكى نثبت للقراء فقط أنه ليس كل ما يلمع ذهبا، وأن نبيّن لهم أيضا جهل وتعصب وتزوير وتدليس العلمانيين والملاحدة، ولن نقدم تنازلا بعد ذلك فى الاستماع إلى سخافاتهم، بل سنصل إلى النتيجة التى تستفزهم وهى أن الإعجاز العلمى حقيقة رغم أنوفهم جميعا، وأن السنوات المقبلة سوف تشهد مزيدا من المعجزات القرآنية الكبرى التى سوف تبهر العالم، وهذا الكلام ليس بدافع العاطفة، بل هو ثقة مطلقة فى النص القرآنى ذاته تراكيب وإشارات وبناء معمارى مذهل حتى وهو يصوغ أعظم النظريات العلمية. وسوف أرد على الشبهات التى يثيرها هذا المتطفل على العلم هو والمراهقون الآخرون، وأبدأ من تخصصه الطبى الذى ينتسب إليه، وهى شبهة مراحل تطور الجنين فى القرآن. يقول صاحبهم هذا رفضا للإعجاز فيما يتعلق بمراحل تطور الجنين: المعنى الحقيقى كما فى قاموس العرب: العلق هو الدم الغليظ، ولا علاقة له بهذه الدودة التى يتخيلها دكتور زغلول والتى لا تمت بصلة لشكل الجنين فى الأسبوع الثالث الذى لا يشبه الدودة من قريب أو بعيد، ولكنه التعسف ولوى الحقائق ومعاملة اللغة بشكل انتهازى (...). الرد: لا يوجد ما يسمى بقاموس العرب، الذى نعرفه نحن هو لسان العرب، ونتحداه أن يخبرنا من مؤلف قاموس العرب هذا؟ وبالتأكيد لن يستطيع لأنه ببساطة لا يوجد ما يسمى بقاموس العرب إلا فى ذهن هذا المتعالم الذى لا يعرف أسماء المعاجم العربية ثم يريد أن يحدثنا عن القرآن! وعلى أية حال فإن ما نقله من كتابه (قاموس العرب) لا يمثل إلا انتقاء لما يريد أن يثبته هو، إضافة إلى جهله بأن كلمة «العلق» تصلح أن تكون جمع «علقة»، مثل عنب جمع عنبة، وفرص جمع فرصة. والعلق كما جاء فى لسان العرب لابن منظور: «دود أسود فى الماء معروف، الواحدة علقة». هذا مجرد نموذج للكذب الذى يمارسه هذا المتطفل على اللغة وأهلها، وهو يتناقض مع المنهج العلمى الذى يدعو إليه، فهل من المنهج العلمى أن يتحدث فى القرآن من له علاقة فاضحة باللغة؟ ولم يقتصر الأمر على كذبه فى نقل المعنى اللغوى من (قاموس العرب) هذا، لكنه أيضا كذب فى الحكم المطلق الذى قاله بهذا التسيب الذى لا علاقة له بالعلم حين قال: «ولا علاقة له بهذه الدودة التى يتخيلها دكتور زغلول والتى لا تمت بصلة لشكل الجنين فى الأسبوع الثالث والذى لا يشبه الدودة من قريب أو بعيد»، على الرغم من أن البروفيسور «كيث مور»، أستاذ التشريح الكندى الشهير، قد أشار فى أحد كتبه إلى هذا الشبه بين الجنين والدودة (العلقة) وعلق عليه فى أحد كتبه بقوله: Note the leech-like appearance of the human embryo at this stage. «لا حظ الجنين البشرى.. يبدو بشكل الدودة فى تلك المرحلة»، وكان ينبغى على من يدعى أنه يتبع المنهج العلمى أن ينقل رأى «مور» على الأقل حتى وإن كان غير مقتنع به. لكنه التعصب ليس ضد زغلول النجار فقط ولكن ضد القرىن ذاته. وتصل جرأته إلى حد أنه يصف معارضيه بأنهم يمارسون التدليس اللغوى والعبث! ونحن هنا ينبغى أن نرد عليه بأنه لا يعبث ويدلس فقط، بل ويمارس نوعا من الدعارة العلمية واللغوية أيضا. ثم يقول فى صفحة أخرى: «والمضغة وغيرها من الأشكال لا علاقة لها بأطوار تكون الجنين ولكنها ببساطة مراحل شاهدتها القابلات والأمهات والناس حينذاك من ملاحظة بسيطة أثناء الإجهاض، فالإجهاض يتم فى أية مرحلة ومن الوارد جدا عندما يحدث الإجهاض أن يصفه هؤلاء بأنه شبه العلقة أوالمضغة». وحتى لا نطيل على القارئ فى الرد على هذه الخزعبلات فإننا نتحداه أن يخرج لنا أى شىء من تراث العرب يشير إلى الجنين بهذه الأوصاف (علقة - مضغة ...)، ولو كان الأمر بهذه البساطة، وأن القابلات يشاهدنه والناس كذلك، فنتحداه ثانية أن يأتى لنا بأى وصف كهذا الذى وصف به القرآن مراحل تطور الجنين فى أى مرجع تاريخى هندى أو صينى أو يونانى، يمكنه الرجوع إلى الباهجافات جيتا Bhagavad Gita وإلى الطبيب الهندى Susruta-samhita، يمكنه الرجوع إلى أبى الطب بقراط Hippocrates، وإلى جالينوس Galenus، ما دام الأمر بهذه البساطة التى يدعيها، إن آفته هى تلك العبارات المجانية التى يلقيها كالإسهال دون تمحيص ومراجعة، حتى وهو يتحدث عن تكون العظام واللحم وأيهما يتكون أولا يقول: والثانية (ميزوديرم) وهى محور حديثنا يتكون منها العظام والعضلات بالتزامن والتوازى وليس عظم قبل لحم كما كان القدماء يتصورون. وسأرد فقط على الجزئية الأخيرة وهى قوله وليس عظم قبل لحم، وهو تصوره الساذج الذى لا يفرق بين النكرة «عظاما»، والمعرفة «العظام»، فهو يتصور أن العظم يكتمل تكوينه أولا ثم يكسى باللحم، لكن الحقيقة أن القرآن لم يقل فخلقنا المضغة العظام، فكسونا العظام لحما، لكن الكلمة القرآنية المستخدمة هى عظاما، وهى نكرة، تشمل كل ما يطلق عليه كلمة عظام وبمجرد ظهورها تكتسى باللحم أو العضلات، فكسونا العظام (التى كانت للتو عظاما) وليس بعد انتهاء تكون العظام كما فهم هو أو فهم غيره من المتسرعين الذين لا يتدبرون ولا يتأملون دقة النص القرآنى.