لم أكن أنوي أن أتابع الكتابة في موضوع الإعجاز العلمي لاعتقادي أن المقال السابق وحده كان يكفي ولكن هالني وأفزعني حجم ما كتب من مقالات حول هذا الموضوع وقد أرسل لي بعضهم مثل هذه الكتابات ، فأدركت أن ذلك ليس رأي فرد بل هو تيار يتدفق هادئاً أحياناً يرتدي ثوب العقلانية والمنطقية والعلمية والموضوعية وصاخباً أحياناً أخرى عندما يكيل الاتهامات ويطلق الشكوك حول النص القرآني .. لقد سيطر على هؤلاء وهم الاعتقاد بأن القرآن هو كتاب ديني فقط – وقد صرحوا بذلك في أكثر من موضع – فهو كتاب لا يجب أن يتطرق إلى أكثر من أمور الدين وقضاياه ، كتاب نقرأه في الجنائز ونؤدي به الصلاة أو في أضعف الأحول هو كتاب نزين به أرفف مكتباتنا ليكسبنا البركة أو شيئاً من الوقار ، ولا يجب أن نقحمه في أمور الحياة العلمية أو السياسية أو الاقتصادية .. والعجيب أنك تحس وكأن هؤلاء يعتقدون ذلك من واقع خوفهم على القرآن وغيرتهم على نصوصه من أن تبتذل أو تمتهن أو تنتقص عندما تقارن نصوصه بنظرية علمية أو بحدث سياسي أو بمفهوم اقتصادي !! هل هي غيرة حقيقية على القرآن ؟ أم هي محاولة لإقصاء القرآن بعيداً في زوايا النسيان ؟ إننا نأمل بل ونحسن الظن في أنهم يغارون على القرآن ولا يسعون إلى إقصائه ؟ لكن ذلك لا يمنعنا من الدهشة من كيفية تعامل هؤلاء الرافضين مع كتابات بشرية وأفكار قديمة موغلة في القدم لعلماء أو فلاسفة وحكماء ، فأكثر هؤلاء الرافضين للإعجاز ما زال يقرأ كتابات أرسطو وسقراط وأفلاطون وهوميروس وشيشرون وشكسبير ، ويحيط هذه الكتابات بهالة من التبجيل والقداسة بل ويستدعيها إذا تكلم عن الأدب أو النقد أو السياسة أو علم النفس والاجتماع أو الاقتصاد أو الفلسفة .. في حين أن هذه الكتابات تبعدنا عنها مئات القرون وعشرات الظنون في نسبتها حتى لأصحابها , .. وبعض الرافضين للإعجاز ما زال يستحضر آراء لينين وماركس وأنجلز وشوبنهاور وسارتر أو غيرهم من فلاسفة ومفكرين قدماء ومحدثين ، ومازال بعضهم يصر على فعالية هذه الآراء والأفكار وصلاحيتها للتطبيق رغم متغيرات الزمان والمكان ، في الوقت الذي يسلب القرآن خصيصته الكبرى وهو أنه جاء للحياة ولم يأت للأموات ، جاء لكي يصوغ للإنسان منهجاً وطريقة حياة في الدنيا وما بعد الدنيا . وفيما يبدو لي أن الرافضين للإعجاز لكي يقروا بوجود إعجاز علمي في القرآن ، كانوا يريدون من القرآن أن يستعرض كل تفاصيل العلم وجزئياته وتجاربه وآراءه ، ويناقشها ويحللها ويطرح نظريات محددة تبدأ بالفروض ثم بخطوات ثم تنتهي بنتائج ، وذلك إن تم فسيكون القرآن عندئذ كتاباً علمياً بحتاً ، ولو حدث ذلك لأغلق أمام العلماء أبواب البحث والتنقيب والنظر في الكون والحياة ، لأن الكتاب المفترض وجوده كما يريدون والمفترض أيضاً أنه سيكون نصاً إلهياً ، كان سيحجر على الناس ملكة التفكير وسيفرض عليهم رؤية علمية واحدة ، وسيجعلهم يسلمون بما جاء به على اعتبار أنه نص مقدس ، لكن القرآن الكريم لم ينزل لكي يستعرض تفاصيل النظريات العلمية فذلك ليس من غايات التنزيل ، بل إن أسمى غاياته أن يكون النص القرآني هادياً ومرشداً ودليلاً ومنهجاً متى طلبت منه بياناًً أعطاك من فيض أسلوبه وبلاغته ، ومتى طلبت منه طمأنينة نفس منحك إياها ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ومتى طلبت منه أحكام دينك وشريعتك أوقفك عليها ، ومتى بحثت فيه عن كليات العلم منحك إشارات علمية تحثك على التدبر والنظر ، إن هذا وأكثر من هذا هو مفهوم القرآن وإعجازه ، لا كما يرى هؤلاء أنه كتاب ديني محدد الغاية ! والملفت أن القرآن الذي يرون أنه كتاب ديني فقط ، لم يتعامل مع كثير من أمور الدين بمنطق التفاصيل والجزئيات ، فانظر إلى قوله تعالى ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) أو تلك الآيات التي تحدثت عن الصوم أو الحج أو الصدقات أو الزواج والطلاق والتجارة .. فإنك ستجد أكثر آيات الأحكام تتحدث في المطلق ، فلم تجد آية تتكلم عن تفاصيل الصلاة وعددها وكيفيتها وسننها وفرائضها ومبطلاتها .. وقس ذلك على بقية أحكام الصوم أو الحج أو غيرهما ، فهل سنقول في هذه الحالة إن القرآن لم يعد حتى كتاب ديني لأنه لم يتناول كل تفاصيل أحكام الدين ؟!! والقرآن ذاته مع أنه قمة البلاغة والبيان العربي حتى أن أهم وجه من وجوه إعجازه هو الإعجاز البياني كما أكد على ذلك القدامى والمحدثون ، أقول لم يأت القرآن شارحاً ومفصلاً صوره وأساليبه وتراكيبه فيقول إن هذه الصورة فيها تشبيه أو أن تلك فيها استعارة أو أن الأخرى فيها كناية ، أو غير ذلك مما تمتلأ به علوم البلاغة العربية ، فإذا قالت الآية ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ..) لم تشرح الآية ما فيها من تشبيه أو توضح عناصره ، لأن تلك لم تكن غايات التنزيل ، فهل نقول هنا إن القرآن ليس فيه إعجاز بياني لمجرد أنه لم يتحدث في تفاصيل وشروح عناصر البيان والبلاغة فيه ؟!! لقد ترك ذلك لعلماء البلاغة والبيان لينقبوا في صوره وأساليبه ويقعدوا القواعد والأصول البلاغية . إننا بالقياس على آيات الأحكام الفقهية وعناصر البيان والبلاغة يمكننا أن ننظر إلى آيات الإعجاز العلمي بهذا المنطق ، فآيات الإعجاز العلمي موجودة تتحدث بجلاء ووضوح عن أمور الكون والإنسان والمخلوقات والكائنات ، لكنها لم تتناول كل ذلك مثلما تتعامل كتب العلم مع هذه الأمور ، فليس من الضروري أن تتحدث الآيات بتفاصيل كل ذلك حتى نقول إن في هذه الآيات إعجاز علمي . ثم علينا أن نساءل هؤلاء الرافضين بعد أن نكون قد تيقنا من أنهم يعتقدون بأن القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل ، ونحن نربأ بهؤلاء أن ينكروا ذلك وسوف نحسن الظن بهم ، لأننا وإحقاقاً للحق ندرك أن منهم من أخلص النية حتى في رفضه للإعجاز العلمي اعتقاداً منه أنه يدافع عن القرآن وينزهه عن الاصطدام بنظريات العلم المتغيرة ، ونقول إذا كان القرآن هو كلام الله – وهو كذلك بالفعل - فإن كل ما فيه موجود لهدف أو غاية ، سواء أدركها الناس بعقولهم في عصر دون عصر أو مكان دون آخر ، فهل يعقل أن تذكر آيات تتحدث عن المطر أو الرياح أو الأنهار أو السماء أو تكون الجنين أو غير ذلك ثم لا يكون لها دلالة أو معنى أو حكمة أرادها الله ، هل يمكن أن تذكر اعتباطاً – حاشا لله – تلك الآيات أو مصادفة دون قصد ؟! نحن لا يمكن أن نتصور أن قوله تعالى ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً ) أو قوله تعالى عن السموات والأرض أنهما ( كانتا رتقاً ففتقناهما ) أو قوله تعالى ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) أو قوله تعالى ( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم ) أو قوله تعالى ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ، ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً .. ) لا يمكن أن نتصور أن هذه الآيات وغيرها الكثير مما ورد في القرآن الكريم قد جاءت بلا غاية أو ذكرت هكذا دون قصد ، فإذا عدنا لما قاله الرافضون للإعجاز العلمي من أن القرآن كتاب ديني لوجدنا أن هذه الآيات وغيرها لا تتكلم عن أحكام الدين وشرائعه ، فلزم أن يكون لها مدلول أو معنى آخر ، فالبحث عن هذا المدلول وجعله يلتقي مع معطيات العلم الحديث هو مما يفرضه ( العقل والمنطق ) إضافة إلى أن قراءة هذه الآيات قراءة علمية يتناسب مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه وقد بلغ العلم مداه ، واتسعت آفاقه ، فلزم أن تكون لغة الخطاب القرآني للإنسان المعاصر ملائمة لطبيعة العصر ، وهذا لا يقدح في القرآن أو يغض من قيمته لمن يرى ذلك من الرافضين لوجود الإعجاز . وحتى لو حدث ما يمكن أن يسمى التصادم بين مدلول الآية ومعطيات العلم ، فلا يمكن أن يجعلنا ذلك نشك في إعجاز الآية ، خاصة وأن البحث عن مدلول الآية هو اجتهاد بشري ، ولقد استوقفني لدى بعض هؤلاء الرافضين للإعجاز العلمي استدلالهم بآية ( ويعلم ما في الأرحام ) وكأنهم عثروا على مبتغاهم في نقض فكرة الإعجاز ، فهللوا وصاحوا صيحة مبتهج ولسان حالهم يقول : انظروا كيف أن العلم والطب الحديث أصبح يعرف نوع الجنين ذكراً أم أنثى ، وأن الآية لم يعد لها مدلولها العلمي ، وهؤلاء لا يعرفون أنهم لا يبطلون الإعجاز في الآية بل هم يبطلون الآية ذاتها ، فكأنهم قد توصلوا إلى أن العلم والطب الحديث قد تفوق على هذه الآية – حاشا لله - عندما استطاع بأجهزته أن يحدد وبدقة نوع الجنين بل ويصوره في مراحله المختلفة . ولنا مع هذه الآية وقفة وقد تسعفنا اللغة العربية – لمن لديه ملكة تذوق اللغة – ليرى أن الآية عبرت عن ( ما في الأرحام ) ولم تقل ( من في الأرحام ) ، فليس المقصود – والله أعلم – معرفة نوع الجنين ، بل معرفة كل ما يتعلق به وهل سيكون شقياً أم سعيداً صحيحاً أم مريضاً فقيراً أم غنياً وكم سيطول عمره ومتى ستكون وفاته .. ولا يمكن للعلم مهما بلغ به التطور أن يتنبأ بكل ذلك ، ولهذا عندما قرأ الآية كاملة سندرك هذا السياق الذي وردت فيه يقول تعالى ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) إضافة إلى أن الآية تؤكد علم الله بما في الأرحام ولا أدري هل يشك هؤلاء في أن الله يعلم ما في الأرحام حتى يسارعوا في زعمهم بإبطال إعجاز الآية ؟!! ومما طرحه بعض الرافضين وربما أكثرهم أننا لا ناقة لنا ولا جمل في منجز علمي حقيقي في الوقت الراهن حتى نقارن به نصوص القرآن ، وأن أغلب ما نتباهى به من قضايا الإعجاز العلمي هي نظريات غربية توصل إليها علماء غربيون لا يدينون بدين الإسلام وربما بأي دين ، وأننا سرعان ما نتلقف هذه النظرية أو تلك لنقول بتفاخر انظروا كيف صدق القرآن وكيف تنبأ وكيف أعجزت آياته العلماء ، فنحن وإن كنا نوافق هؤلاء الرافضين في أن الأولى بنا أن ننتج نظريات علمية بأيدينا نحن نقارن به ونشرح أوجه الإعجاز العلمي ، فإننا لا نوافقهم على سخريتهم من وقوفنا على نظريات علمية غربية نستدل بها على وجود الإعجاز العلمي ، فقد فات هؤلاء الرافضون أن العلم منتج إنساني لا يعرف حدود الأوطان ، وأنه قائم على تبادل الأخذ والعطاء ، وفاتهم – والتاريخ يؤكد ذلك – أن الحضارة الغربية في عصورها الوسطى المظلمة قد كانت تغط في ثبات عميق خلف قيود الكنيسة ورجعية الإقطاع ، وأنها لما استفاقت تلقفت ما وقعت عليه الأعين والأيدي وما وعته العقول من نتاجنا نحن الحضاري الإسلامي في عصورنا الزاهرة . وكل ما سبق يدفعنا للتساؤل الملح : ما الذي يزعج البعض من إيمان المسلمين بالإعجاز العلمي في القرآن ؟ هل يعتقدون أن هذا الإيمان هو سبب تخلف المسلمين العلمي ، وأنهم بمجرد تخليهم عن هذا الإيمان بالإعجاز العلمي للقرآن سوف ينطلقون في أفاق التقدم العلمي والتكنولوجي ويحصدون ثمار المعرفة ، ويسبقون الغرب في ما أحرزوه من إنجازات علمية وحضارية ؟!! لايمكن أن يكون الإيمان بفكرة أو بقضية هو سبب تأخر أو تخلف فرد ما أو مجتمع ما ، خاصة إذا كان هذا الإيمان صادقاً لا يعتريه شك ، لكن دعنا لا نسيء الظن بهؤلاء الذين ينزعجون من إيمان المسلمين بالإعجاز العلمي ، ونذهب إلى أنهم يأملون للعالم العربي والإسلامي أن يتقدم علمياً ويتطور تكنولوجياً ويبتعد عن الخرافة والأوهام والأساطير .. إلى غير ذلك مما ينادي به هؤلاء ، ونقول لهم إن هناك طرق ووسائل عديدة للوصول إلى هذا التقدم العلمي في أوطاننا ليس من بينها إلغاء الإيمان بالإعجاز ، بل إن هذا الإيمان هو الوقود الذي يشعل قاطرة التقدم العلمي ، إنه الروح التي لا يمكن للجسد أن يتحرك بدونه ، وهذا ما حدث في عصور الحضارة الإسلامية الزاهرة التي كان فيها القرآن حاضراً بل وقائداً لمسيرة الحضارة . أما تلك الطرق والوسائل العديدة للوصول إلى التقدم العلمي الحقيقي فهي في واقعنا الذي نعيشه ، وفي عقولنا التي سيطر عليها التكاسل في التفكير والنظر ، وفي مؤسساتنا العلمية والبحثية التي طغى عليها الترهل والبيروقراطية القاتلة ، وأهم هذه المؤسسات هي الجامعات التي سوف نخصها بحديث آخر فيما بعد نتكلم فيها عن تراجع دورها الثقافي والعلمي ، وحتى تحول العلماء والباحثون في أكثر مؤسساتنا إلى مجموعة من الموظفين التكنوقراط الذين يسرعون في الصباح للتوقيع في دفتر الحضور والانصراف ، وفي نهاية الشهر يصطفون لكي يحصلوا على قروش وجنيهات تكفي بالكاد لتدبير أمور معاشهم وحياتهم !! إذا أراد الرافضون للإعجاز العلمي حقاً لأمتنا التقدم العلمي فعليهم أن يطالبوا لا بمقاومة الإعجاز بل بمقاومة الفساد الذي استشرى في حياتنا بكل صوره ، عليهم أن يطالبوا بإيجاد قاعدة بحث علمي تتوافر فيها المعلومات والإمكانات ، عليهم أن يطالبوا بتحسين صورة العلماء ومنحهم المزيد من الاهتمام والتقدير مثلما يمنح الفنانون والرياضيون والراقصون ، عندها سوف تتدفق الأفكار وتجد سبيلها للتطبيق وللتعديل والإضافة ، وعندها سوف نتسابق في الإنجاز العلمي وربما يغير ذلك من واقعنا المأزوم بل والمهزوم .. المأزوم في فقدانه ثقته فيما يملك من معطيات إيمانية يقينية على رأسها القرآن الكريم ، والمهزوم أمام الآخر – خاصة الغرب الأمريكي - في طغيانه العسكري هنا وهناك وتفوقه العلمي المبهر الذي جعلنا نحس أننا لن نبلغ مداه . إنها دعوة للتوقف مع النفس ومراجعة الواقع بكل مراراته لندفع به إلى صورة أمثل بسلاحين لا ثالث لهما العلم اليقيني ثم الإيمان الصادق الذي لا يرقى إليه الشك . *باحث وإعلامي [email protected]