د. محمد سليم شوشة أثير فى الأيام الماضية إشكال وجدل ثقافى كبير عن إحدى دور النشر العربية وهى دار «ألكا » فى العراق بأنها اخترعت كتبا عربية ومترجمة إلى العربية من لغات أخرى وهذه الكتب ليس لها وجود حقيقى هى أو مؤلفوها بالطبع فأسماء الكتاب أو المؤلفين هى الأخرى مفبركة أو مخترعة وأثير بشواهد وقرائن كثيرة أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعى التوليدى بشكل كامل، لتكون واحدة من أقوى الاتهامات الثقافية التى نختم بها عام 2025 على الصعيد الثقافى والأدبى والأخلاقي، وليكون هذا الحادث مجالا لتأمل حال الثقافة العربية مع الذكاء الاصطناعي، وهى حال تنذر بكثير من المشاكل والخطر، وتصبح بعض هذه الحالات الخاصة بالفبركة أو التزييف أو غياب الشفافية فى استخدام الذكاء الاصطناعى تشير بشكل لا لبس فيه أننا أمام ظواهر معقدة وانكشاف لجوهر الحالة الأخلاقية المتراجعة التى قد تقول إننا قد لا نرتدع ذاتيا عبر الضمير والأخلاق حين نتعامل مع الذكاء الاصطناعي. الذكاء الاصطناعى كما يؤكد الجميع ويكررون كثيرا قوة جبارة وظاهرة تفرض تحولاتها على العالم كله، ولكن يبدو أن بعض المجتمعات والثقافات ستواجه مخاطر لم تضعها فى حسبانها، وبخاصة إذا كان هناك تراجع فى أدوار الدول والمؤسسات أو كانت هناك أشكال من الضعف المؤسسى أو تأخر التشريعات التى تنظم استخدام الذكاء الاصطناعى فى الكتابة والتأليف والبحث العلمي. فى مصر مثلا سنجد أن المجلس الأعلى للجامعات وضع قوانين وقيود إرشادية لاستخدام الذكاء الاصطناعى فى البحث العلمى وعممها على جميع الجامعات ليعرفها الباحثون ويعملوا فى ضوئها فى هذه السياقات التى تهيمن عليها التحولات الكبرى والجذرية والعميقة وممتدة التأثير يجب أن يكون هناك عدد من المقومات التى تصنع حالة الوقاية والحماية من الخطر، أولها التشريعات التى تضبط السلوك العلمى والثقافى وقوة الدولة فى وضع هذه التشريعات وتطبيقها بصرامة، والثانى هو الوازع الداخلى وهو مهم جدا وبخاصة فى عالم يمكن أن يسود فيه التزييف من خارج حدود أى دولة، أى يكون هناك ما تسميته بالغزو التزييفى العابر للحدود، فأى صفحات للتواصل الاجتماعى أو قنوات على اليوتيوب أو مواقع تبيع الكتب يمكن أن تمارس عملها من أى مكان فى العالم دون قيود طالما كانت هذه المواقع أو التطبيقات غير ممنوعة، وحتى مع وضع ضوابط قانونية وأخلاقية لهذه الوسائط مثل الفيس بوك أو اليوتيوب تبقى هناك حرب مشتعلة تلقى فيها الاتهامات وتمارس فيها أعمال التزييف والتضليل والكذب بمحتوى ضخم يبدو أن السيطرة عليه صعبة لعدد من الأسباب ربما أبرزها أن الأخلاق والتشريعات نسبية وتختلف من مجتمع لآخر، فما يجوز لدى دول ربما لا يكون جائزا لدى دول أخرى، وما يمثل عيبا أو عارا فى ثقافة قد لا يكون كذلك فى أخرى. من هنا يجب أن يتساءل الكتاب والمفكرون والباحثون فى الفلسفة والأخلاق لدينا عن ملامح مستقبل الثقافة العربية فى ظل هذه التحولات الكبرى. ويجب أن يتأملوا حالنا فى ظل هذا التحول الجبار الذى يفرضه الذكاء الاصطناعي. فالقضية ليست مجرد مشكلة اختراع كتب من قبل أى دار نشر والتربح من ورائها وخديعة القارئ وهدم الثقة بين الناشرين والقراء بما يعمق مشاكل القراءة لدينا، وهى بالأساس محملة بكثير من المشاكل، فعلاقة الإنسان العربى بالقراءة ليست فى أفضل أحوالها فى الوقت الراهن بسبب عوامل كثيرة ليس هذا سياق بحثها، وبروز مشكلة الكتب المزورة قد تكون له تبعات نفسية عميقة، ولا يستطيع أحد الزعم بأنه يلم بها أو يتوقعها بشكل كامل، فهى ظواهر خارج التوقع، فربما تكون هذه الحال من التزييف والتضليل هى بداية الانطلاق نحو الشك المنهجى والدافع والداعم لأن يتخلى القارئ العربى عن يقينه وينخرط فى حال من التساؤل والبحث الذى يدعم وصوله بشكل منهجى إلى الحقيقة، أى يندفع نحو البحث والاستقصاء إعمال العقل ليفرز الحقيقى من المزيف. هل قد تكون هذه هى الضارة النافعة، أو كما يقال لدينا رب ضارة نافعة، وهذه الضربات للثقة يمكن أن تحول الناس إلى البحث والعقلانية والتفكير والاستقصاء والتحري؟ أم أنها يمكن أن تعمّق أزمة العقلانية والمنطق وتدعّم هيمنة التزييف والكذب فى ثقافتنا العربية؟ هل القارئ الذى صدّق أن هناك كتبا بهذه الأسماء وعاش عليها أو اقتناها وقرأها واقتنع بها وحدث آخرين عنها سيكون إضافة لرصيد الحمقى والمغفلين لدينا؟ وهل هى عملية قابلة للتكاثر؟ أم أن الأمور قد تأخذ مسارات مغايرة وإيجابية؟ وهل كل مزيف للكتب يمكننا اكتشافه بسهولة الآن ولاحقا مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعى وتعاظم قدراته بصورة لا يمكن تصورها؟ الحقيقة أنها كما أكرر ظواهر معقدة، ولن يستوعبها بشكل كامل إلا المفكرون والباحثون الذين يشددون على قيمة التراكم المعرفى فى أبحاثهم ويرتبطون بالعالم المتقدم ارتباطا وثيقا فى رؤيته وتشريعاته. فالنشر فى كل مكان تتم حوكمته بصرامة كبيرة، وفى مصر مثلا لا يمكن لدار نشر أن تحصل على رقم إيداع دون بيانات هوية دقيقة للمؤلف وهذا أمر قديم جدا، وأى مخالفات هناك صرامة شديدة فى التعامل معها، لكن ماذا عن النشر الإلكترونى للكتب؟ ماذا عن الكتب الوافدة من خارج حدودنا؟ كيف نثق فى هذه الحوكمة للنشر ولدينا محاولات لهدم الدول وتفتيتها تجرى من حولنا؟ هذه أمور مصيرية متشابكة ومتراكبة ويؤثر بعضها فى بعض بسرعة وقوة ويجب أن يكون تفاعل المجتمعات الأكاديمية والبحثية معها بالقوة والسرعة نفسها. كما يجب أن تكون مجالا للتداول الفكرى فى المجتمع بشكل عام حتى نستقر فى النهاية على أفضل الصور التشريعية، وتغليظ عقوبات التزييف لأن الأمر أكبر من مجرد الاحتيال المالي، فالأبعاد المعرفية والأخلاقية أعمق لأنها تؤثر على السلوك العام للإنسان العربي. الواقع أن هناك أنظمة لاستكشاف ما يكتب الذكاء الاصطناعي، وبخاصة فى اللغات التى يكون فيها الذكاء الاصطناعى ضعيف، لأن قدرات نماذجه تتفاوت بحسب نوع اللغة التى يتعامل بها. ولكن كلما كان النموذج قويا فى اللغة التى يتعامل بها يصبح قريبا جدا من البشر، وهناك عمليات تسمى بالأنسنة humanization أى الوصول بمنتج الذكاء الاصطناعى لسمات المنتج البشرى وهى عمليات تدخل فى أعماق صناعة الذكاء الاصطناعى وبناء نماذجه من التعلم العميق وتعلم الآلة، وهى قوية جدا فى اللغة الإنجليزية، ومع وجود هذه الإمكانية لإنتاج نصوص أدبية تحاكى أدب شكسبير بشكل تام وبنسبة مطابقة فائقة فإننا لا نجد هذا التزييف تقوم به إحدى دور النشر لأنها أمم لا تتهاون مع الكذب سواء حكوميا أو مجتمعيا، وبعض المجتمعات مثلا تعتبر أن الإنسان الذى يكذب أو يزيف حقيقة فقد شرفه، فى حين أن أمم أخرى ترى الشرف فى صور أخرى من السلوك. السؤال الواجب طرحه هنا يجب أن يكون حول حجم الطموح العربى أو لدى بعض الدول والمجتمعات العربية فى أن تكون دولا ومجتمعات بحق، وأن تكون مثل بقية البشر وأن تسعى بقوة نحو أفضل صور الحوكمة الأخلاقية والقيمية وأن تكون لها رؤية جماعية وأن تبتعد عن حالات التشرذم والانتهازية وحالات التلاسن وأن تؤمن بوحدة المصير وتبين أن بعض أشكال الطائفية أو الصراعات التى تضعف الدول سياسيا ستكون مدمرة فى وقت فيه أصبحت الدول مثل سفن تبحر فى محيط هاج بثورة الذكاء الاصطناعى ولا أحد يعرف متى ستتم السيطرة بشكل كامل على هذه الثورة التى ليست ثورة علمية فقط، بل هى ثورة أخلاقية وسياسية واجتماعية وعلى الأصعدة كافة.