ألم يعلم الصبية والناشئة في القلم وعديمو البصر والبصيرة ان أبسط قواعد التاريخ التي درسوها إذا كانوا بالفعل درسوا والا تخرجوا في كلياتهم بالغش كحالهم اليوم ان الكتاب والشعراء يتلاشونه مع حكامهم وأنظمتهم والدولة والثورة المنتصرة لها رجالها الجدد وإدارتها ورجالاتها الذين يدافعون عنها ويتحدثون باسمها.. لم يذكر التاريخ القديم أو الحديث ان شعراء بني أمية امتدحوا العباسيين.. أو شعراء بني العباس امتدحوا الاخشيديين.. عجبت أشد العجب من الذين كانوا بالأمس يدَّعون انهم الذراع اليمني للنظام واليوم لبسوا ثوب الشيطان وبدلهم من حال لحال يبدلون جلودهم ويتحدثون باسم الدين وهم كانوا أشد الأعداء وسوف أذكر مثالاً للكاتب الشريف عبدالحميد الكاتب.. وهو عبدالحميد بن يحيي والذي نشأ بالشام في أخريات الدولة العباسية.. ونجمها إلي غروب وريحها إلي ضعف.. كان يعمل بديوان عام الرسائل في عهد هشام بن عبدالملك.. ثم عرفه مروان بن محمد وكان والياً علي الجزيرة وأرمينيا.. فاتخذه كاتباً له فلما تولي الخلافة سنة 127 ه. سنة 744م عينه كاتب الدولة ثقة به ورغبته في الانتفاع بعلمه وذكائه. توالت المحن علي مروان في السنوات الخمس التي قضاها خليفة هزمت جيوش مروان وبويع أبو العباس السفاح بالكوفة سنة 132 ه 749 م.. فر مروان إلي مصر وتبعه العباسيون فقتلوه وانتهت الدولة بمقتله. لم يفارق عبدالحميد مروان في محنته وفاء منه لسيده حتي أشار عليه مروان حينما توالت هزائمه وجدَّ العباسيون في طلبه ان ينضم إليهم لحاجتهم إلي أدبه وإعجابهم به. قال له: ان إعجابهم بك يدعوهم إلي حسن الظن بك "فاستأمن" إليهم وأظهر الغدر بي فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي.. فماذا قال الرجل الشريف الوفي: أُّسِرُّ وفاءً ثم أُظهر غَدره .. فمن لي بغدر يوسع الناس ظاهره؟ يا أمير المؤمنين ان الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي ولكن سأصبر حتي يفتح الله عليك أو أقتل معك.. فلما قتل مروان اختبأ عبدالحميد عند صديقه ابن المقفع ومات عام 132 ه 749م عندما أمسك به رجال السفاح.. أردت ان أضرب مثلاً بهذا الكاتب الشريف ولا أعلق علي الآخرين المدعين.. أنا لا أقدم النصيحة ولكن الشيب أكبر ناصح.. يقول المثل: إذا لم تستح فافعل ما شئت.