في نهاية الفيلم وجدت الدكتور رفيق الصبان جامداً في مكانه يمسح دموعه. وقد بدت عليه علامات الانفعال والتأثر الشديد.ويبدو انني لم أتأثر بنفس القدر رغم الاعجاب الكبير بالمخرج الدانمركي لارس فون تريير.. وفيلمه هذا الذي شاهده جمهور من المثقفين والمهنيين بالسينما من خلال أسبوع بانوراما السينما الأوروبية. هو آخر أفلامه "ملانكوليا" ومعناها الاكتئاب أو الحزن المرضي المقيم داخل الإنسان وقد يعوق قدراته الذهنية والفيزيقية..ربما احتاج الفيلم إلي تأمل أعمق لكي نصل إلي هذا التأثير وإلي جوهر الترجمة السينمائية لعنوانه "ميلانكوليا" "Milancholia" وذلك عبر المعالجة الفذة والمركبة التي قدمها المخرج- المؤلف لحالة الاكتئاب علي مستوي الذات وعلي مستوي الرمز. نحن أمام عروس جميلة وناجحة في مجال الاعلانات. تهرب يوم عرسها من وسط المدعوين في حفل أنيق تكلف مبلغا طائلا. وتتسلل إلي الحمام وتضع نفسها في "البانيو" وتستسلم لحالة لم تكن قد تكشفت بالوضوح ولا العمق الذي سوف نراه لاحقا. ولكن علينا قبل العُرس الذي يجمع أفراد الأسرة. أن نتأمل بداية هذا الفيلم التي تضعك أمام تحدي: ما معني هذه التفاصيل التي نشاهدها في إطار تصميمات بصرية دون كلمات. ومنها هذه العروس نفسها وهي تقف وسط منظر طبيعي مفتوح. تتساقط في خلفيته طيور ميتة. ويظهر طفل لا تتضح علاقته بها. وفي داخل نفس التكوين يقترب كوكب يكاد يلمس الأرض. لم أفهم خيوط الدخان الصاعدة من أصابع اليد المفرودة لهذه الشابة "جوسفين" وإن كنا سنعرف حالاً علاقتها بالطفل. إنه ابن شقيقتها المفتون بها والذي يلقبها ب"محطمة الصلب" والحقيقة انها مسكونة بالاكتئاب والحزن. تتوالي مشاهد هذه المقدمة برفقة أجزاء من موسيقي فاجنر "أوبرا تريستاند وايزولد" قبل أن تنزل العناوين.. ما نراه إذن يحتاج إلي قراءة لن نصل إلي مغزاها إلا بعد اسدال ستار النهاية. جوستين وكارين الفيلم مقسم إلي جزءين.. الأول بعنوان "جوستين" والثاني "كارين".. امرأتان شقيقتان. العلاقة بينهما دافئة رغم التوتر النابع من اختلاف التكوين النفسي ومستوي الوعي لدي كل شخصية.. كارين متزوجة من ثري وتسكن في قصر فاخر. وهو عالم فلك ولديه غرام بالنجوم والكواكب وهو الذي قام بتغطية نفقات الحفل الفاخر احتفالا بزواج أخت زوجته كارين.. أما الطفل ابنهما. فاسمه "ليو" وهو مثل أبيه مغرم بالكواكب ولديه أدوات "تليسكوب" ولديه أيضا علاقته الحميمة بخالته جوستين. والعنوان يشير أيضا إلي اسم كوكب يقترب من كوكب الأرض بسرعة منذرة قد تكون نهاية الأرض.. الزوج جون يدرك من خلال علمه وبالنظر إلي الكوكب الذي ظهر قبل نزول العناوين أن النهاية محتومة. وأن ثمة كوكباً علي وشك الانقضاض فيقرر الانتحار سرا. حتي تجده زوجته وقد فارق الحياة ملقي وسط جياده في الاسطبل فتغطية وتخفي نبأ رحيله. اليأس من النجاة يقربها أكثر وأكثر من شقيقتها ومن ابنها وقد بدأت ترتعد من النهاية ومن العجز في وجود مخرج حتي تبدد جوستين مخاوفهما بوهم الخيمة السحرية. وهي مجرد مجموعة عصيان دون غطاء. يجلس تحتها الاختان و"ليو" بينما "ملانكوليا" يهبط فعلاً ويغطي الثلاثة. نهاية العالم الكآبة تسري في ثنايا العمل رغم دفعات شحيحة من الفكاهة السوداء أثناء الحفل. وكذلك الحزن. والنهاية حسب معطيات الفيلم لا ريب فيها. والأرض إلي زوال. وليس هناك حياة بعدها. انها نهاية العالم إذن. والكآبة في فيلم فون تريير ليست مجرد حالة عقلية ولكنها اسم الكوكب الذي يندفع لالتهام الأرض. والحزن حالة مزاجية تبدأ من العُرس وينتشر كالفيروس مع الوعي بحركة الكوكب ويصيب الأخت كارين رغم تفاؤلها عموما. وزوجها. كما يطول أمها "شارلوت رامبلنج". أما الوالد "جون هيرت" فهو مصاب بمرض السرقة "كلبتومانيا". يسرق أدوات المائدة أثناء الحفل.. يرسم تريير العلاقة المدمرة بين الزوجين "والده ووالد" الشقيقتين. اللتين انفصلتا بالطلاق. واجتمعتا مؤقتاً في الحفل الذي سرعان ما سوف ينفض دون اتمام الزفاف. وكذلك يرسم العلاقة الجديدة التي ولدت ميتة بين العروسين "جوستين ومايكل".. فالعريس يغادر الحفل قبل نهايته لاستحالة التواصل.. هكذا! النهايات السعيدة مستحيلة بما فيها نهاية الكوكب الذي نعيش عليه.. وكل نفس ذائقة الحزن والإحباط والموت "حسب المخرج" ليس بداية لحياة أخري. وإنما نهاية مطلقة. المعاني والأفكار. ليست جديدة ربما في السينما الاوروبية التي تشاهدها. وإنما اللافت المعالجات المبتكرة هي التي تملأنا بالدهشة. والصياغات الفنية الراقية تسمو بهذا الوسيط إلي مرتبة الفنون الرفيعة كالأوبرا.. والفيلم نفسه مزيج أوبرالي جميل وممتع بصريا. ربما كان أفضل وأعقد ما جادت به موهبة المخرج وأقوي تجاربه السينمائية وإن كنت شخصيا أحب فيلمه "راقصة في الظلام" بسبب زخمه العاطفي والإنساني والفني البديع. ورأيي أن مشهد البداية في هذا الفيلم بإيقاعه وتشكيلاته والموسيقي المصاحبة. وكذلك مشهد النهاية حين لا يتبقي سوي الأبطال الثلاثة تحت الخيمة السحرية والكوكب "كآبة" يهبط معلنا النهاية.. إنه بالفعل مشهد مؤثر جدا إلي حد البكاء بالنسبة للبعض. المشهدان البداية والنهاية دروس في ماهية الابداع البصري. والتصميم الدرامي التعبيري للمشهد. وكذلك فن الأداء التمثيلي.. الذي لم يقتصر تميزه لممثلي الأدوار الرئيسية وفي مقدمتهم الممثلة كرستن دانست التي حصلت علي جائزة أحسن ممثلة في مهرجان "كان" 2011. وهي جائزة تم انتزاعها رغم موقف المهرجان من المخرج الذي اتهم بمعاداة السامية. هذه التهمة القميئة التي تطارد كل من له وجهة نظر سلبية في الممارسات الصهيونية لليهود. وحتي الأدوار الصغيرة مثل دور ليو الذي لعبه الممثل كاميرون سير. الأداء في هذا الفيلم مدرسة متنوعة الوجوه والأساليب.. أداء شارلوت رامبلنج الأم المحبطة المتغطرسة والأب الساخر "جون هيرت" سارق الملاعق والممثلة الرائعة شارلوت جينبورج التي أبدعت في تشخيص دور كلير. اكتئاب المخرج ربما من المفيد أن يعرف القاريء أن المخرج نفسه يصارع مرض الاكتئاب منذ سنوات وانه تعامل مع هذه الحالة سينمائيا وإن لم يكن بنفس الدرجة من التأثير في فيلم "الفوضوي" "The Anarchist" عام .2009 إن الاكتئاب سمة عالمية فيما يبدو وليست فردية فقط. وباتت سمة حاضرة بشكل أو بآخر في أفلام نهاية العالم التي يندرج تحتها من انتاج هذه السنة فيلم "الجلد الذي أسكن فيه" للمخرج الاسباني بيدرو المودوفار وقد عرض ضمن أفلام البانوراما. وفيلم "آخر يوم علي الأرض" للمخرج آيل فيرارا وفيلم "أرض أخري" للمخرج مايك كاهيل.