"دعونا من البكاء علي اللبن المسكوب. اللي حصل حصل"!! هكذا طلبت المذيعة من ضيفها المهموم والقادم من ميدان التحرير. قالت ما قالته بقلب بارد. وابتسامة عريضة. بينما تجلس بكامل زينتها وأناقتها تحاوره حول ما جري من أحداث مأساوية فاجعة مسطورة وقائعها في الصحف. إنها الموجة الثانية من الثورة أو بالأحري "الفُم الثاني" في عملية الغسيل الثوري لأرض الكنانة من قذارة سنين طويلة وصعبة عاشتها الأجيال في ظل حكم استبدادي بوليسي لم يعرف الرحمة. المسكوب ليس لبناً أيتها السيدة البليدة. وانما دم الشباب في الميادين المنتفضة. وليس ما جري فسحة ولا حفلا ساهرا تتباهين تحت أضوائه. ولم يكن مناسبة لعُرس اعلامي بلدي تتبارون فيه بإحساس بارد وصوت استعراضي زاعق ومفزع من المصداقية بينما أصوات الرصاص وعواصف الغازات الخانقة ووحشية الجهاز الأمني تتوالي في مشاهد تحرك الموتي من قبورهم. نعرف ان الأداء "المحايد" في الوظائف الإعلامية ضرورة مهنية ولكن حين تسيل دماء الشباب وتغطي أسفلت الميدان وحين تحطم رءوس المتظاهرين وعظامهم بالبنادق وبالهراوات الغليظة. يصبح الحياد مستحيلا. أصبح السباق من أجل تغطية أحداث ميادين التحرير وما يجري في شارع محمد محمود فرصة للاستعراض. واسلوبا مصطنعا في فرد العضلات. والحقيقة ان ما جري وفر لنا نحن المشاهدين فرصة للفرز التلقائي والتقييم العفوي المباشر عندما نمر سريعا بين القنوات بحثا عن تغطية نثق فيها وإعلامي محترم عقليا ومهنيا. لديه انتماء حقيقي وإدراك للمشهد الكلي وابعاده يمكنك أن تتفاعل مع أدائه وتسعي إليه لمتابعته وتجلس أمامه وأنت علي ثقة من مصداقيته. بعض الاعلاميين يطلون عليك عبر القنوات التي أصبحت أكثر من الهم علي القلب. يستدعي علي الفور تاريخه الذي يعرفه كثيرون ويعرفون كيف هبط هذا الصبي بالباراشوت علي المؤسسات الثقافية والاعلامية وحتي الفنية ومن الذي يقف وراءه والبعض يكرس سيريالية المشهد الاعلامي الآن وأساليب تبديل الأقنعة علي المسرح الساخن الآن. البكاء علي الدم المسكوب ليس اختيارا وليس مجرد دموع ساخنة يستحيل أن تجف داخل بيوت آلاف الأسر وعلي وجوه أمهات ثكلي وشباب تجرعوا مرارة الاحباط وانتفضوا يحملون أرواحهم علي أكفهم. البكاء علي الدم المسكوب نزيف في القلب وذكري محفورة في الوجدان والعقل وسطور مخزونة في الذاكرة وفصل حزين ومشرف في سجل التاريخ ومشاهد تجلل بالعار من قاموا بفعل الاغتيال. اغتيال الروح والحلم والأمل. البكاء علي الدم المسكوب في هذه الموجة الثانية من الثورة أطنان من الألم والاحباط والفجيعة والمرارة. فمن يوقف هذا الدم المسكوب؟ "اللي حصل حصل" هذا صحيح ولكنه أبدا لن يمر ولن يكون بلا ثمن ولن نرضي له ثمنا سوي كامل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية حتي تهدأ أرواح الشهداء.. شهداء 25 يناير وشهداء 19 نوفمبر وشهداء ما بين التاريخين في هذه السنة التاريخية .2011