لأنني كتبت كثيراً عن التاريخ بما احتواه من سلبيات وإيجابيات.. وبما تضمنه من حكايات وروايات وبما اختزنه من أحداث وأخبار جيدة وسارة أو سيئة ومفجعة.. المهم أنه في جميع الأحوال فإن معرفة التاريخ خصوصاً القديم أو العتيق فإنه في رأيي الخاص مهم كثيراً في علاج كثير من المشاكل. وبالتالي أختلف مع الذين يتجاهلون خزائن التاريخ والذين يعتبرون الماضي "ماض".. وانتهي.. في حين ثبت أن من لا يعترف بالماضي فإن حاضره غياب ومستقبله تظلله الغيوم.. وأتذكر قولاً لجولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في الماضي بعد حرب 1967 أن قيل لها: لماذا لم تغيِّر إسرائيل من خطة الهجوم التي اتبعتها عام 1956؟ ردت بسرعة: لأن المصريين لا يقرأون التاريخ.. لو قرأوه لاستفادوا كثيراً.. من وقائعه وأمكن تلافيها في 1967. والآن وقد تم الإعلان عن أن عام 2019 هو عام التعليم وإطلاق المشروع القومي لنظام التعليم الجديد.. خصوصاً وأنه كانت هناك عدة محاولات سابقة لتطوير النظم التعليمية والمناهج.. ولكن ظلت العملية التعليمية في حاجة إلي تطوير حاسم. وإذا قرأنا التاريخ نجد أن أول محاولات لإصلاح حال التعليم كانت أثناء الحملة الفرنسية علي مصر.. حيث الظلام يسود.. والأمية والجهل متفشيان في كل مكان.. ويقرر التاريخ أن النهضة الحقيقية لحال التعليم كانت في عهد محمد علي باشا فهو واضع أُسُس التعليم في القرن 19.. ونظرة سريعة لما قام به نجد أنه عُني بنشر المدارس علي اختلاف درجاتها وإرسال البعثات العلمية إلي أوروبا وقد اتبع هذا الأسلوب تماماً كما فعل عند إنشاء الجيش والأسطول وذلك أنه اقتبس النظم الأوروبية الحديثة في نشر العلوم والمعارف من خلال المدارس الحديثة واستفاد بما كان في الحضارة الأوروبية من علوم وأفكار.. ولم يقتصر فكر محمد علي علي الاهتمام بمرحلة معينة من التعليم أو بنشر فرع خاص من فروع العلوم بل لجأ إلي العناية بنشر التعليم علي اختلاف درجاته عال وثانوي وابتدائي.. فأنشأ المدارس العالية وإوفد البعثات ثم وجه نظره إلي التعليم الابتدائي.. فقد أراد أولاً تكوين طبقة من المتعلمين تعليماً عالياً ليستعين بهم في القيام بأعمال الحكومة والمصالح وكافة المجالات التي تحتاج إلي موظفين أكفاء.. أما المدارس الابتدائية والثانوية فإن الأزهر كانت مهمته مد المدارس العالية والبعثات بالمتعلمين الذين حازوا قسطاً وافراً من الثقافة تؤهلهم للالتحاق بالمدارس العليا ويكونون علي استعداد لتفهُّم المواد العلمية التي تخصص فيها المدارس العليا.. وعلي هذا كان الأزهر هو أساس الإعداد الثقافي والعلمي لمن يلتحق بالمدارس العليا وكان أول ما فكر فيه محمد علي هو إنشاء مدرسة عليا للهندسة لأن البلاد كانت في حاجة إلي مهندسين لنشر التعمير في أنحاء البلاد والواضح أنه رأي أن البلاد في حاجة إلي إعمال عمران بها فبدأ بإنشاء المدرسة العليا للهندسة. وكان اهتمام محمد علي بالمدارس العالية مُنصبَّاً علي كل ما هو عملي فأنشأ مدرسة للطب فكان المسئول عنها الدكتور الفرنسي كلوت بك. ويُعد صاحب النهضة الطبية في مصر وهو الذي أدخل "البنج" في العمليات الجراحية بعد أن كان المريض الذي يخضع للجراحة يتم ضربه بآلة أو بعصا علي رأسه ليفقد الوعي. ثم توالت بعد ذلك مدارس للصيدلة وللولادة وللألسن ثم أنشأ مدرسة للمعادن وللزراعة والطب البيطري وغيرها. ولم يكتف محمد علي بإنشاء المدارس العليا ولكنه أسرع في إنشاء المدارس الابتدائية في معظم أنحاء مصر.. بما في ذلك مدارس في قري الصعيد.. بالإضافة إلي ذلك توسَّع في إنشاء البعثات إلي أوروبا ليتم للشبان استكمال دراساتهم العالية في معاهد أوروبا العلمية. ومن البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي أنه أرسل بعثات إلي فرنسا لدراسة الإدارة وأخري لدراسة العلوم الحربية والإدارة العسكرية وثالثة للعلوم السياسية وغيرها للطبية وللملاحة الفنون البحرية والطبيعيات وغيرها.. وكان يمكن أن تستمر الصحوة في التعليم إلا أن عباس باشا الذي تولي حكم مصر بعد وفاة إبراهيم بك ألغي المدارس وألغي مدرسة الألسن.. وجاء سعيد باشا بعده ليذهب بالتعليم إلي الخصخصة منذ ألغي المدارس وأغلق مدرسة الطب وغير ذلك من الأفعال التي أودت بما فعله محمد علي من نهضة تعليمية. ويقول المؤرخون إن الحركة التعليمية عادت مع حكم الخديو إسماعيل.. فبعد أن أنشأ مجلس شوري النواب تقدم واحد من الأعضاء باقتراح بأن تقام مدرسة في كل مديرية يكون التعليم فيها بالمجان.. ووافق المجلس بالإجماع علي هذا الاقتراح كما أن إسماعيل باشا أوقف مع تنفيذ مشروع المدارس جميع الأطيان التي تتألف منها تفتيش الوادي للإنفاق علي شئون التعليم. أردت أن أسرد هذا التاريخ لكي نبيِّن أن التأريخ يُظهِر عادة ما كان.. والأساليب التي اتُبِعَت حتي يمكن الاستفادة منها. لقد ظهر أن مصر لديها باع طويل في النهضة التعليمية ليس في الشرق الأوسط فقط بل علي مستوي إفريقيا والدول المحيطة بنا.. وعرفنا كيف تدهور حال التعليم مع عباس الأول وسعيد باشا وأيضاً مع توفيق باشا وغيره.. ولكن في جميع الأحوال كان التعليم في مصر عاملاً مهماً في تخريج عدد من العلماء والنابعين المصريين علي مستوي العالم كله. ونحن الآن نسعي لكي يكون التعليم هو أساس أي تقدم. إن عام 2019 سيكون بالفعل عصر بناء حركة تعليمية جديدة نفخر بها.. ولنلحق بها ركب التقدم في دول العالم.