أزمة ارتفاع أسعار السلع التي ضربت البلاد مؤخرا أصابت الكثيرين بالإحباط والاكتئاب والتذمر خاصة بعد أن ردد البعض بأن هذه الأزمة غضب من الله ويجب أن يتوب الشعب حتي يرفع عنه البلاء. أكد علماء الأزهر أن التشريع الإسلامي تعرض لمثل هذه الأزمات وقدموا روشتة لعلاج أزمة ارتفاع الأسعار مستندين بالقرآن والسنة ومواقف السلف الصالح من خلال هذه السطور. يقول د. عبد الفتاح إدريس أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر إن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في مصر منبعه وجود خلل إداري فيمن عهد إليهم ضبط أسعار هذه السلع والخدمات سواء جهات التموين أو المحليات أو المؤسسة الشرطية خاصة وأن جشع التجار له ممارسات اشتكي منها كثير من الناس مما يقتضي ضبط الأسعار لتكون في متناول محدودي الدخل والمستوي الاقتصادي والاجتماعي المتدني .. وقد ترك لهؤلاء الحبل علي الغارب يفعلون أفاعيلهم في المستهلكين. وقد شرع في الإسلام عقوبات تعزيرية طبقت في الصدر الأول من الإسلام وفي عصور السلف في حق هؤلاء التجار الذين يغالون في أسعار سلعهم وخدماتهم .. ولهذا فإن عمر بن الخطاب منع صحابيا أن يبيع سلعته في السوق لما وجد أنه يبيعها بسعر مخالف لسعر السوق حيث قال له "إما أن تبيع كسائر التجار أو تبحث لسلعتك عن موضع آخر فتبيعها فيه حيث شئت".. كما شرع في الإسلام عقوبة المصادرة للسلع التي يغالي أصحابها في قيمتها حيث يمكن للدولة أن تأخذ هذه السلع ونحوها ممن يبالغ أصحابها في قيمتها ثم تباع للناس بسعر لا يرهقهم ولا يحول دون إشباع حاجتهم منها. أشار إلي أن وقائع مصادرة هذه السلع من الكثرة بمكان وهذه العقوبة التعزيرية أقرها جمهور الفقهاء ولا يوجد مانع شرعي من أن تطبق بالنسبة للسلع التي يغالي الجشعون في قيمتها بحيث يرهقون من يحتاجونها بقيمتها المرتفعة فإن هذه السلع لو تمت مصادرتها وبيعها للمستهلكين بسعر يكون في متناول أيديهم فإن هذا يحقق الغاية المرجوة من حماية الدولة لأفراد المجتمع من جشع التجار .. كما أنه يحقق وفرة في الاستهلاك ووفرة في الادخار ومنعا من وصول أموال الناس إلي فئة سيئة من فئات المجتمع وهي فئة المتاجرين والمحتكرين الذين يستغلون معاناة الناس في الحصول عليها لفرض أثمان تعجز الغالبية عن توفيرها. سنن الله في الخلق أكد د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر أنه من المقرر شرعا أن غلاء أو رخص الأسعار والأزمات الاقتصادية كلها أمور من سنن الله في الخلق لا علاقة لها بإيمان أو كفر أو بتوحيد أو شرك أو بطاعة أو معصية قال عز وجل "وكان أمر الله قدرا مقدورا" وقال جل شأنه "كان ذلك في الكتاب مسطورا" .. و"ما نرسل بالآيات إلا تخويفا" .. وفي الواقع التطبيقي فقد وجدت مثل هذه الأمور في عهود الصالحين علي سبيل المثال لا الحصر "سبع سنوات عجاف" في وجود سادتنا يعقوب ويوسف والأسباط عليهم السلام .. وحدثت سنة جدباء في عهد النبي صلي الله عليه وسلم الذي منع ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام ودعا في حالة أخري بدعاء الاستسقاء لإنزال المطر بعد انقطاعه ومعاناة الناس .. وفي عهد أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه أيضا شهدت سنة قل فيها الزرع وندر الضرع وكان طعامه الخل والزيت ومنع رضي الله عنه الجزارة أربعة أيام في الأسبوع. وهذه الأحداث والحوادث القدرية كانت فيها المعالجات الحكيمة بالأخذ بالأسباب فسيدنا يوسف عليه السلام لجأ إلي تخزين الفائض من القمح تحسبا لسنوات الشدائد وهذا يدل علي التخطيط الحكيم لمعالجة الأزمات .. وسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم جعل التكافل الاجتماعي بين القادرين والمعدمين بعدم ادخار لحوم الأضاحي بعد أيام العيد والتشريق وسيدنا عمر عليه رضوان الله ضرب القدوة بنفسه فتناول خشن الطعام ولم يتميز عن الرعية. أكد د. كريمة أنه من هذا وذاك هناك أمور من باب العظة والاعتبار منها الصبر والرضا وعدم التبرم بقدر الله سبحانه وتعالي والأخذ بالأسباب المتاحة لتحسين الأحوال والعدالة الاجتماعية فالتبعات توزع بالعدل فيبدأ بالأغنياء والموسرين ثم بالطبقة المتوسطة ثم بالفقراء. هذا تدرج راعاه التشريع الإسلامي .. وفي الواقع التطبيقي طبقه سلطان العلماء العز بن عبدالسلام رحمه الله أن أرشد أمراء المماليك إلي أن الضرائب تكون علي الأغنياء أولا فإن لم تسد الحاجة ساهم فيها متوسطو الدخل مع الأغنياء فإن لم تكف الحاجة ساهم الجميع كل علي حسب مقدرته.. هذه أمثلة نظرية وتطبيقية في مواجهة أزمات اقتصادية تتجلي فيها لطائف الله عز وجل بأن جعلها عارضة استثنائية يعقبها الفرج لوعد الله عز وجل "إن مع العسر يسرا". الكسب الحرام أكد د. عبد الغفار هلال عميد كلية اللغة العربية الأسبق بجامعة الأزهر أن الإسلام حذر المسلمين من الكسب الحرام وحثهم علي المكسب الحلال الطيب الذي لا شبهة فيه قال تعالي "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون".. ورفع بعض التجار الجشعين للأسعار بصورة مبالغ فيها وتلاعبهم بالأسعار يعتبر تضييقا علي الإنسان وهذا منهي عنه في الشرع قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشتري وإذا اقتضي".. فالرحمة والرأفة مطلوبة خاصة مع الظروف التي يمر بها الشعب في الوقت الحالي. أشار إلي أن العلماء اختلفوا في حكم التسعير وإلزام التجار بالبيع بثمن معين حيث إن الأصل في الإسلام هو عدم تسعير السلع إلا عند الضرورة والحاجة حيث أجيز للدولة وضع ضوابط لتسعير السلع في حالة الغلاء لمنع الضرر عن المواطنين الذين يعولون علي مباحث التموين وجهاز حماية المستهلك التصدي لجشع التجار الذين يتلاعبون بالسوق كيفما يشاءون. أضاف أن التسعير منه ما هو ظالم لا يقره الشرع ومنه ما هو عادل فقد روي أن الناس اشتكوا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا .. فقال صلي الله عليه وسلم "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقي الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال" .. مشيرا إلي أن امتناع الرسول صلي الله عليه وسلم عن التسعير إنما هو من منطلق الإمامة .. بينما اختلف العلماء في تسعير السلع إلا أنهم أجازوا لولي الأمر والجهات المختصة تحديد أسعار السلع بما تقتضيه المصلحة العامة إذا زادت زيادة فاحشة واحتكر التجار تلك السلع واستغلوا حاجة الناس. طالب د. هلال الحكومة بمراقبة التجار وتحديد هامش الربح لضبط الأسعار بما يناسب الظروف الاقتصادية للمواطنين ومعاقبة كل تاجر يبالغ في رفع الأسعار وسن القوانين التي تجرم من يزيد من معاناة المواطنين ويصعب عليهم معيشتهم.. كما ناشد بزيادة الإنتاج لسد العجز في الاحتياجات المطردة للمواطنين وتقليل الواردات وتفعيل الضبطية القضائية لجهاز حماية المستهلك حتي يرتدع كل تاجر تسول له نفسه التلاعب بأقوات الناس .. كما دعا التجار إلي الامتناع عن رفع الأسعار بصورة استفزازية وأن يتقوا الله ويلتزموا بمبادئ الإسلام في البيع والشراء لأن غير ذلك خيانة للأمانة.