عندما كنا نسمع عن التقشف الحكومي كانت أذهاننا تنصرف مباشرة إلي ترشيد نفقات الوزراء والمحافظين وكبار الموظفين الذين تسمح لهم مناصبهم التصرف في أموال الدولة.. ما يعني أن الوزير يجب أن يقتصد في مصاريف مكتبه.. ويختصر عدد السكرتيرات.. ويكتفي بسيارة واحدة له وسيارة واحدة لبيته لزوم التسوق وتنقلات الأسرة.. ويستغني عن اسطول السيارات التي تقف رهن إشارته.. ويكتفي الوزير وكذلك المحافظ باستراحة واحدة.. وطاقم واحد من العمال المساعدين.. واستبعاد المستشارين الذين لا يقومون بأي دور.. وترشيد الحوافز والبدلات ليكون للمسئول مرتب واحد معروف له حد أقصي.. يأتي من مصدر واحد.. وليس من مصادر يصعب حصرها. كان التقشف الحكومي يعني في تصورنا أن تقتصد الحكومة ومؤسساتها في المظاهر الاحتفالية والمهرجانات.. ولا تنفق مليما واحدا إلا في موضع يستحق ويهم الناس.. كالتعليم والتثقيف والصحة والكهرباء والمياه والصرف الصحي.. وتلغي في عام الرمادة "الأزمة" أي ميزانيات للبهرجة في تجديد المكاتب وشراء أثاث جديد.. وتغيير التكييفات والسيارات الفارهة علي النحو الذي سجله الزميل كارم قنطوش في "المساء" لمحافظ البحيرة. لكن.. مع مناقشة روشتة صندوق النقد الدولي حول القرض الذي تطلبه مصر حاليا.. والمقدر ب 12 مليار دولار.. اكتشفنا أن التقشف الحكومي في عرف الصندوق لا يقصد به هذه الأمور التي نعرفها.. والتي لا يهتم بها إلا أمثالنا ممن لا يرون الدولار إلا في المناسبات.. وإنما يقصد به تقليص الانفاق الحكومي علي الدعم الموجه لمحدودي الدخل.. ورفع الدعم عن الخدمات الحكومية والسلع الأساسية.. وتقليص أي زيادات في رواتب موظفي الحكومة.. بل تقليص أعداد موظفي الحكومة أنفسهم والتخلص تدريجيا من نصفهم بالفصل النهائي من وظائفهم. وهنا تكمن المفارقة.. فبينما ننظر نحن - المواطنين - إلي التقشف الحكومي علي أنه سيكون.. ويجب أن يكون علي حساب كبار المسئولين وأصحاب القرار.. ومن يحملون خاتم الدولة فإن صندوق النقد جعل التقشف الحكومي منصبا علي المواطنين البسطاء الذين لا يملكون إلا رواتبهم.. وأصبح هؤلاء المواطنون هم الذين يدفعون فاتورة التقشف الحكومي. صندوق النقد ينظر إلي ما تنفقه الحكومة علي المواطنين باعتباره منحة أو عطية.. كأنها تنفق من مالها الخاص.. من ميراثها أو جيبها.. وليس من أموال الضرائب التي تأتي من هؤلاء المواطنين أنفسهم.. ومعروف أن الموظفين والغلابة هم أكثر الملتزمين بدفع الضرائب في هذا البلد. وشيئا فشيئا.. صارت الغلبة - كالعادة - للمفهوم الذي تبناه الصندوق وروج له.. وكلما قرأنا عن التقشف الحكومي في محادثات الصندوق انصرفت أذهاننا مباشرة إلي النتائج التي ستحل علي المواطنين وليس الحكومة... فالحكومة دائما في مأمن من الهزات.. مع اننا نري بأم أعيننا حجم الإسراف والبذخ في ممارسات الحكومة جهارا نهارا.. وكأنها ليست حكومة مأزومة في دولة مديونة.. ومرتبطة بموازنة تعاني من عجز تاريخي لم يسبق له مثيل. في عدد السبت الماضي نشرت "الجمهورية" تقريرا مفصلا حول هذا الإسراف الحكومي المشهود ووضعت له العناوين التالية: * 40 مليار جنيه مصروفات الحكومة رغم دعوات الترشيد. * 24% زيادة في انفاق الوزارات عن العام الماضي. * 9.8 مليار جنيه مياهاً وكهرباء وانتقالات ومستلزمات سلعية. * الحكومة دمجت الصرف الصحي مع ميزانية الصحة وحملتها 20 مليار جنيه من فوائد الدين العام. * المواطنون: ترشيد الحوافز والبدلات أفضل من الاقتراض الخارجي. * الاقتصاديون: تجديد مكاتب الوزراء وأسطول سياراتهم يكلفنا مليارات. * روشتة التنمية البشرية: يجب استبعاد المستشارين وتشديد الرقابة المالية. هذه العناوين دالة بذاتها علي أن التقشف الحكومي الحقيقي بات ضروريا.. وإذا تحقق علي الوجه الصحيح فسوف يغنينا عن قرض الصندوق.. ويغنينا عن سؤال اللئيم.