لعل السيرة الذاتية تنتسب إلي الذكريات بأكثر من انتسابها إلي المذكرات.. المذكرات تكتب بصورة يومية. حتي لا تخون الذاكرة.. أما الذكريات. فهي تعتمد علي استدعاء الأحداث القريبة والبعيدة. واستعادة الملامح التي ربما شحبت في توالي الزمن. يساعده علي ذلك أحياناً رجوع الكاتب إلي وثائق وأوراق قديمة وصور وأفلام وتسجيلات صوتية. العادة أن الكاتب يكتب سيرته الذاتية. بعد أن يبلغ مرحلة النضج. أو أن يكون قد حقق مكانة طيبة تدفع قراءه إلي اقتناء كتابه. المثل الذي يحضرني أيام طه حسين. وسجن عمر توفيق الحكيم. وكتاب "أنا" للعقاد. وحياة لطفي السيد وأحمد أمين والسحار. ووقوف صلاح عبدالصبور علي أعتاب الخمسين. القاريء يطالع السيرة الذاتية لكاتب ما. باعتبارها تصويراً لمشهد يختلط فيه الخاص والعام. فالكاتب عضو مهم في المجتمع. وله علاقاته بالشخصيات المهمة. الكتابة هنا تتجاوز السيرة الذاتية إلي سيرة المجتمع في بعض جوانبه.أكره الرواية بأسلوب الراصد الذي يكتفي بتسجيل الأحداث. كالصبي في الأيام. والراوي في مذكرات زكي نجيب محمود.. أفضل الأسلوب التحدثي كما في سجن العمر لتوفيق لحكيم. وخليها علي الله ليحيي حقي.. مخاطبة القاريء باعتباره صديقاً تبثه ذاتك. وتبوح له بما كنت تعتبره سرك الشخصي. اعرف أن الكاتب قد يضيف. وقد يحذف. وربما اختلق خياله ما يبذل الصورة الحقيقية. لكن يبقي الصدق الفني. ولا بأس من الصدق الموضوعي. وثمة من اتجه إلي كتابة السيرة الذاتية لأنه يروي فيها بالضرورة أقل قدر من الخيال وأكبر قدر من الواقع. بالنسبة لي فقد كتبت سيرتي الذاتية في العديد من الكتب. لا للوعظ. أو لتقديم خبرة. أو تجربة. ولا لارتداء ثوب المؤرخ. وإنما لأنني وجدت في داخلي حاجة لأن أكتب ما أكتبه. كنت سأحزن لو أن قائمة مؤلفاتي خلت من حكايات من جزيرة فاروس والحياة ثانية ومد الموج وأغنيات السنين. و"الحنين إلي بحري" وغيرها. لم أكتب سيرتي الذاتية في محاولة للتغلب علي الزمان والموت كما يتصور البعض ولا للتدرب الواجب علي كل كاتب علي حد التعبير النقدي الفرنسي وإنما لوصل ما كان يجري. والتطلع إلي آفاق المستقبل.. وهي ليست محاولة للفرار إلي الماضي في مواجهة ما يبدو سخيفاً ومحبطاً. في الآني المتوقع. كتبت سيرتي الذاتية لأنني أردت أن أستعيد أبي وأمي وإخوتي وحجرتي في البيت المطل علي شارع إسماعيل صبري. والحياة في بحري والبحر والجوامع وحلقة السمك والصيادين وغازلي الشباك وشاطيء الكورنيش وحديقة سراي رأس التين والمذاكرة في أبي العباس والموالد والجلوات ومواكب الصوفية وأهازيج السحر من علي تمراز وسوق العيد. سيرتي الذاتية علي نحو ما تعبير عن الحنين في يقيني أن الحنين دافع مهم لكل مبدع.