في 24 فبراير الحالي. تمر مائة سنة علي ميلاد الروائي الكبير الراحل عبدالحميد السحار. وحين دعت منظمة اليونسكو - في أوائل القرن - لترشيح الأسماء التي ينبغي علي المؤسسات الثقافية الاحتفال بذكراها داخل مصر وخارجها. فقد كان من بين الأسماء التي رشحناها لهذه المناسبة.. الروائي الكبير الراحل عبدالحميد السحار. جري الاحتفال بعيد الميلاد المائة لرموز مهمة في تاريخنا الثقافي. لكن السحار ظل بعيدا عن اهتمامات مسئولي الثقافة في بلادنا. لأسباب غير مفهومة. ولا مبررة. إذ أردنا أن نعرض لسيرة السحار كروائي - قدم في الأدب الإسلامي وفي التاريخ الإسلامي أعمالا رائعة - فلعلنا نشير إلي رواية "الشاعر الجديد" التي تروي حياة أسرة من الإسكندرية. عايش أفرادها. وتلمس حياتهم عن كثب. و"أم العروسة" تصوير لحياة أسرة أشبه بأسرته. و"في الوظيفة" تعبير عن تأثر بالغ من الفنان بحياته الحكومية. وهو في كل تلك الأعمال لا يغادر محيطه الاجتماعي الخاص. إنها تدور عبر أجواء أسرية. تنتمي إلي طبقة اجتماعية معينة. لكن من الصعب أن نسمع أعمال السحار بالنرجسية. بمعني أن سيرته الذاتية هي المحور الذي تدور من حوله أحداث العمل الفني. لأنه لا يبحث - في إطار العائلة الواحدة - عن مشكلة خاصة. وإنما عن أحد الجذور المفقودة للكائن الإنساني عامة. باختصار. فإن السحار هو أقرب أدبائنا إلي الكاتب الأمريكي فوكنر. في استيعابه تاريخ أسرته. وتاريخ حياته. وتطويعه في خدمة أعماله الأدبية. يقول السحار: "عزمت علي أن أستمد قصصي كلها من واقع الحياة. أن أبحث عن أناس أعيش بينهم. وأستقرئ حياتهم. ثم أنسق المجري الذي ستندفع فيه الشخصيات والأحداث حتي تبلغ القصة نهايتها الطبيعية". ولعله يجدر بي أن أشير إلي تلك الأحداث غير المتوقعة التي تفاجئنا في بعض أعمال السحار. و"في قافلة الزمان" بخاصة. دون أن تسبقها ممهدات فعلية. مرد ذلك قصور الفنان - أحيانا - في المزاوجة بين استيحاء الواقع. وتسجيل الواقع. أما ما تعني "في قافلة الزمان" بتقديمه. فهو الاستعراض البانورامي لتطورات الحياة الاجتماعية المصرية. بكل ما تنبض به من عادات وتقاليد. تجد امتداداتها في قلب آلاف السنين التي عاشها. ومازال الإنسان المصري. لم يكتف السحار برواية صديقه محمد فرج لأحداث "الشارع الجديد". سافر - كما روي لي - إلي الإسكندرية. إلي حي كفر عشري بالتحديد. حاول أن يتعرف إلي مظاهر الحياة في البيئة الصعيدية المتميزة داخل مجتمع ساحلي. وأخلص بالفعل في تصوير البيئة: عاداتها. وتقاليدها. حتي خناقاتها اليومية. حرص علي تصويرها. وإن كان فهمه لمعني الواقعية - آنذاك - قد جعل بعض أحداث الرواية أقرب إلي السرد التسجيلي. بعد هزيمة يونيو 1967. كتب نجيب محفوظ العديد من الإبداعات التي واجهت تساؤلات النقاد. قال لي محفوظ إن المرحلة التي تحياها مصر تحتاج إلي حرص من الفنان كي يصل إلي قارئه. الكم الأكبر من القراء. حتي لو شعر أن أسلوب المقالة سيتيح له ذلك. فسيكتب به. ظني أن ذلك الشعور هو الذي أملي علي السحار كتابة أعماله التي تناقش قضية الوجود الصهيوني في المنطقة العربية. أضيف أنه هو الشعور الذي يدفع الكثير من الأدباء - الآن إلي تناول القضية في إبداعاتهم. فرضت المقولة - أمام الخطر المعلن - نفسها: نكون أو يكونون. كتب السحار - في ضوء ذلك - إبداعات ودراسات. غير مدفوع إلا بنذر الخطر الماثلة في الأفق. كان رأي السحار أن مستوي بعض أعمالنا "لم يغفل أعماله" لا يقل عن مستوي القصص العالمية. لكننا نعاني عقدة احترام كل عمل أجنبي. "هناك قصص عالمية. أحدثت ضجة كبيرة لكنها - في الحقيقة - عادية. ولو وضعت أسماء أجنبية علي بعض قصصنا العربية. لتغيرت النظرة إليها". ولعلي أعترف أني فوجئت بالحزن الذي وصف كلمات السحار وهو يتحدث إلي عبدالرحمن أبوعوف: "أنا تعرضت من النقد في السنوات الأخيرة لموقف غريب من الصمت والتجاهل. إن كثيرا من كتبي - وبعد أن مات نقاد مثل قطب ومندور والمازني والمعداوي - لم يكتب عنها أي نقد حقيقي. وبعض أصدقاء قدموها في سطور. وهم ليسوا نقادا "كتبت عنه - أيامها - العديد من المقالات. فلعله اعتبرني واحدا من الأصدقاء غير النقاد!" ولعل السبب أني لم أتعرف علي الشللية والنقاد الملاكي. وأدور علي محترفي النقد أعرض بضاعتي. ولكني لا أحزن. ولا أيأس. بدليل أني أرتب في ذهني مشروعات أحلم بكتاباتها. بل شرعت فعلا في تنفيذها". لم يكن الرجل يحدثني عن تجاهل نقدي. ولا حق يتصوره ضائعا أو مسلوبا. كان يبدو مطمئنا إلي خطواته. لا يشغله إلا أن تهبه صحته الوقت الذي يفرغ فيه لأوراقه وقلمه. وإن التقطت منه - يوما - كلمات ذات دلالة: قال إنه كان من السهل عليه أن يلجأ إلي شقيقه سعيد. فتصدر مكتبة مصر ما يكتبه. بدلا من المجازفة بمشروع غير مضمون الربح ولا مأمون النتيجة. لكنه حرص أن يكون واحدا من جماعة تمثل جيلا أدبيا. وحين أصدرت دار القلم مجموعة السحار "ليلة عاصفة". بدا سعيدا للغاية. كأنها كتابه الأول. وقال: الأجمل أن تنشر لك دار نشر أخري!. يقصد أن المجموعة صدرت في دار نشر أخري غير مكتبة مصر التي أصدر فيها كل مؤلفاته! كنت أجلس إليه بالساعات. يحدثني عن ذكريات طفولته في العباسية. يستعيد أسماء فريدون وسعيد السحار وإحسان عبدالقدوس ويهوديات الظاهر وأسماء أخري كثيرة. سألته ذات عصر: لماذا لا تكتب هذه الذكريات؟ قال: ربما فكرت في هذا الأمر. وفاجأني السحار - بعد حوالي الأسبوع - بستة مقالات عن عمله موظفا إداريا في سلاح الطيران. أذن لي بنشرها. قدمتها في "المساء" بالقول: "هذه الصورة. لصديقي الأستاذ عبدالحميد جودة السحار. الذي استطاع - مع أبناء جيله: نجيب محفوظ وعادل كامل والبدوي وغيرهم أن يضعوا الأساس الفعلي لعمارة القصة القصيرة. بالتعبير الصادق عن البيئة في أشكال فنية متطورة. بل إن معظم المحاولات الشابة في القصة القصيرة والرواية. مازالت تسير في الطريق نفسه الذي يرتاده جيل لجنة النشر للجامعيين. أحدثت المقالات - الذكريات صدي لافتا. دفعت السحار - فيما يبدو - لأن يخلو إلي أوراقه وقلمه. ثم دفع لي ما شكل كتابا متكاملا: إذا أردت نشره. فافعل. لم يكن للفعل صلة بإرادتي. كانت ذكريات سلاح الطيران هي غاية ما أستطيع أن أنشره في الصفحة التي أشرف عليها. وطرقت باب ممدوح رضا - مدير تحرير العدد الأسبوعي من "الجمهورية" آنذاك. تصفح الأوراق. وسأل الجالس جواره - الكاتب الصحفي والأديب إبراهيم الورداني -: ما رأيك؟ قال الورداني: يكفي ثلاثة فصول أو أربعة. ونشرت "الجمهورية" ستة فصول من المذكرات. ثم صدرت المذكرات كاملة من مكتبة مصر. بالعنوان الذي اختاره لها السحار: هذه حياتي. زرت عبدالحميد السحار في بيته "الجديد" بمدينة نصر. وجد السحار في الضاحية الناشئة - آنذاك - موضعا مناسبا للهروب من زحام القاهرة. وصل قناعته بالتنفيذ. شيد بيتا من ثلاثة أدوار. خلف مبني الجهاز المركزي للمحاسبات من حوله صحراء ممتدة بلا آفاق. عدا ما تناثر من معسكرات الجيش وبنايات البداية. من شهدوا تلك البداية لابد أنهم يذكرون اعتذار سائقي التاكسي عن التوجه إلي مدينة نصر. خوفا من المجهول! خصص عبدالحميد لنفسه حجرة صغيرة. أثاثها سرير سفري. ومكتبة. وجعل بقية الحجرات لأبنائه قبل أن يكبروا. ويتركوا البيت إلي بيوتهم الخاصة. ظل البيت بلا مصعد. حتي أصيب السحار بمتاعب في القلب. امتثل لنصيحة الأطباء. فركب مصعدا إلي الطابق الثالث. حيث حجرته. ولما بلغ السحار سن المعاش. كان من البديهي أن يرفض مد خدمته. قرر أن يتفرغ للكتابة الأدبية والسينمائية. استأجر مكتبا في شارع عبدالخالق ثروت. يخلو فيه إلي القراءة والتأمل والكتابة.. لكن الموت لم يمهله!