قرأت كتبا كثيرة في السيرة الذاتية, وحصلت منها علي متعة لاتقل علي المتعة التي احصل عليها من الادب العظيم الذي يعتمد علي الخيال في السرد القصصي والروائي. ولعل هذه الكتب التي تنقل وقائع حياة كتابها, تكون اكثر تأثيرا من القصص والروايات, لقوة علاقتها بالواقع ولانها تتحدث عن حقائق الحياة واحداثها ووقائعها وشخصياتها وليس عن عالم الخيال, ولا سبيل في مثل هذه الحالة التي يقرأ فيها وقائع حقيقية, ان يهز القاريء كتفيه عندما يري صورا لقسوة وآلام ومعاناة البشر وينفضها عن كاهله, كما يحدث وهو يقرأ مثل هذه المشاهد في القصص, ورأيت ان هذه الكتب تنقسم الي انواع كثيرة ومتعددة, فهناك سيرة الوقائع والاحداث, كتلك التي يكتبها رجال السياسة ويسردون فيها خلفيات التحولات السياسية والقرارات المصيرية واحيانا الصراعات والمعارك والحروب التي اسهموا فيها, فهي مذكرات يكتبها اصحابها بهذا الشكل لانها تستمد قيمتها من هذه الاحداث والوقائع والتحولات, والشواهد علي مثل هذه المذكرات كثيرة, يكفي ان يلتقط القاريء مذكرات اي رئيس او وزير او قائد حربي, ليعرف ما أقصده, النوع الثاني, تلك المذكرات التي يكتبها اناس ليس في حياتهم مثل هذه الاحداث الكبيرة ولم يتبوؤا المراكز السياسية القيادية الخطيرة التي تحرك التاريخ وتصنع مقدرات الشعوب, فهم غالبا ينتمون لعالم الفكر او الفن, او الابداع الادبي, يكتبون مذكراتهم تأملا واستبطانا للحياة ومتابعة لرحلة النضخ العقلي والانفعالي والعاطفي التي مروا بها, واستطيع ان اضرب مثلا علي مثل هذا النوع من المذكرات التي تكاد تختفي منه الاحداث, ولا تبقي الا التأملات, بكتاب الكاتب والروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكس في كتابه الذي ترجمه الشاعر ممدوح عدوان تقرير الي جريكو), دون ان ننسي في الادب العربي ايام طه حسين, ولو ان قسما كبيرا منها استغرقته اعوام الطفولة وصراعه مع عاهة كف البصر وتقديم صورة عن انتصار الارادة, وهي ذكريات سجلها في سنوات نضجه, يضمنها ما توفر عليه من تحليل وتفسير واكبار لمسيرته عندما كان طفلا, وكان يكتبها باعتبارها شكلا من اشكال الابداع الادبي. وقد وقفت امام هذين الاتجاهين وانا اشرع في كتابة سيرتي الذاتية واخترت ان اتبع في كتابة هذه السيرة طريقا ثالثا يكون منزلة بين المنزلتين, وامضي مع احداث حياتي ارويها, كما امضي مع رحلة الافكار والآراء ارصد نضجها وتحولها واستنبط ما وصل منها الي طبقة الوعي, وهذا الطريق بين الطريقين ليس اختراعا من اكتشافي, وانما طريق اتبعه كتاب كثيرون قبلي يصعب حصرهم, واذا كان لابد من تقديم مثل هذا النوع من كتب السيرة فليكن كتاب المفكر والمبدع العربي ميخائيل نعيمة سبعون, باعتباره واحدا من اوائل كتب السيرة في الادب العربي المعاصر, في مجال المذكرات او السيرة الذاتية التي اعتنت بالوقائع وتحت هذه الانواع الثلاثة طبعا هناك تنويعات في الاساليب وطريقة التناول, اذ يمكن ان تكون كتابة المذكرات مجرد رحلة مع الانا المتضخمة, ويمكن ان تكون كشفا وبوحا وتعرية للعيوب والمثالب ورفع الغطاء عن اسرار عائلية في حياة كاتب السيرة, ويمكن ان تكون تسجيلا يتراوح بين الذاتي والموضوعي. دون تطرف في احد الجانبين. بالنسبة لي فانه لا اعتراض من حيث المبدأ علي الاسلوب الذي يجب ان يكتب به صاحب السيرة سيرته, انها اشبه بالشهادة ولصاحب الشهادة الحق ان يقول ما يعرف, الا ان هناك بعض المحاذير لمن يطالبون أو يريدون كتابة سيرة الكشف والفضح, ان كاتب السيرة ربما حر في كشف وفضح ما يتصل به وبحياته, ولكنه اذا اراد كشف اسرار عائلية, او مثالب لدي بعض افراد هذه العائلة, فانه هنا قد يسيء الي اناس آخرين, ويعتدي علي خصوصيتهم, وهو امر لا حق له فيه, مهما كانت صلة القرابة. اسميت هذه السيرة الذاتية التي اضعها في خانة الذكريات, مرافئ للسفر, مرافيء للوصول, لأنني علي هذا النحو اري رحلة الانسان في الحياة, مرافيء يبدأ منها وينطلق من ارصفتها الي مرافيء جديدة, وما ان يصل اليها حتي تتحول هي بدورها الي مرافيء للسفر, والمثل علي ذلك ان الانسان يبدأ صغيرا رحلة الدراسة, ويكون هدفه في هذه المرحلة هو الوصول الي خواتيمها الناجحة, وما ان يصل الي تحقيق هذا الهدف, حتي يبدأ رحلة جديدة لتأكيد ذاته وتكوين قاعدة لنفسه غير قاعدة العائلة التي خرج منه وبيتها الذي شهد مولده ونشأته ليبدأ في مرحلته الجديدة انشاء بيت وعائلة, كما تظهر له في حياته العملية والمهنية اهداف يسعي لتحقيقها ومحطات علي هذا الطريق يريد الوصول اليها, وما ان يصل الي تحقيق هدفه, حتي يظهر امامه هدف جديد يسعي لتحقيقه, ومعاودة الكفاح من اجل الوصول اليه, وهكذا تبدو رحلة الانسان في الحياة مثل رحلته عبر طريق طويل يعبره راكبا او راجلا, حيث يري علي مدي البصر نهاية الافق في شكل عناق بين السماء والارض, ولكنه ما ان يعبر جزءا من الطريق حتي يتبدد ذلك العناق ويظهر افق جديد وعناق آخر بين السماء والارض, فهي آفاق مفتوحة علي آفاق تتوالد بشكل تراتبي الواحد بعد الآخر, تبدأ ولا تنتهي الا بالوصول الي المرفأ الاخير في رحلة الحياة.