ما هي السيرة الذاتية؟ لماذا يعمد المفكرون والفنانون والسياسيين والإنسان العادي إلي تدوين سيرته الذاتية من طفولته إلي الشيخوخة؟ هل هي تاريخ مستعاد لإنسان يشعر بأن سيرته في الحياة قاربت علي الانتهاء؟ هل يدرك كاتب سيرته الذاتية, مواطن قوته وضعفه, نجاحاته وإخفاقاته؟ وإذا كان لكل موجود في الكون, نقص كامن فيه, فإذا أدركه, هل يملك من الجرأة أن يكشف عن جرحه دون تورية أو إسناد لمجهول؟. وهو الحدث الذي أقدم عليه المفكر الدكتور لويس عوض في سيرته الذاتية( المتفردة في صراحتها), في قسمها الأول بعنوان مذكرات طالب بعثة عن سنوات حياته في باريس, وقسمها الثاني بعنوان أوراق العمر.. سنوات التكوين والتي كتبها في سنوات عمره الأخيرة, والتي لم تسعفه لتدوين بقية أوراق قسمها الثالث, تحدث عوض عن والده وأخيه وأسرته, لم ترض الأسرة, ولكنه لم يلتفت لأي محاذير.. يري البعض أن السيرة الذاتية أشبه بحفر جداري( علي ورق), مرآة يري فيها الكاتب روحه, يقاوم بها فناء لا مهرب منه, مصداقا لرؤية الفيلسوف هيدجر الذي يصف الإنسان بأنه موجود مائت, وهو ما يفسره الدكتور سعيد توفيق بأن من مصادر القلق والهم الإنساني, حينما يبدأ الإنسان يعي حقيقة أنه موجود مائت, أي متجه نحو الموت ويذهب الدكتور جابر عصفور, في مقال لمجلة العربي الكويتية/ أكتوبر2013] إلي تأكيد رؤية توفيق ويقول تبدو كتابة السيرة الذاتية كأنها تعبير رمزي عن مقاومة الموت والتأبي عليه وتحديه بالكتابة, كما في ديوان جدارية الشاعر محمود درويش, وكما في مقال دكتور ذكي نجيب محمود بعنوان تغريدة البجعة, والأيام لطه حسين التي كانت مصدر إلهام لي في حياتي, وكما في أنا لعباس العقاد, وحياتي لأحمد أمين وأحمد لطفي السيد وإبراهيم المازني ومحمد حسين هيكل باشا, توفيق الحكيم, يحيي حقي واللبناني سهيل أدريس ويقتطع عصفور من مقال ذكي نجيب محمود هذه الكلمات تقول أحد المعتقدات الشعبية إن البجعة عندما تشعر بدنو أجلها, فإنها تذهب إلي نهر وتصدر أصواتا شجية كأنها تودع بها الحياة, إنها تغريدة البجعةب. ولما كنت محبا للتأمل في صفحة الوفيات, فإن فضولي في التأمل في السير الذاتية العربية والغربية, أكبر, فتشت في بعض من السير, من الأيام لطه حسين( والتي قرأتها في الستينيات في مدرسة النقراشي الثانوية) إلي الخاطرات لسعيد توفيق التي تأملت فيها رؤية صاحبها الفلسفية خلال العام الماضي, كما استرشدت بدراسة د.عصفور لفهمها والتعقيب عليها, بخصوص مدي ما تمثله السير الذاتية العربية من تجارب حياتية حقيقية وخبرات نفسية حقيقية؟ وما علاقة ما سبق بمدي رحابة أفق قيم أي مجتمع؟ وما هي حدود المباح كتابته وما الذي يتم إخفاؤه بالانتقاء؟ وهل تصلح الرواية قالبا أدبيا للسيرة الذاتية للكاتب, أم أنها قالب للهروب مما لا يمكن البوح به صراحة في السيرة الذاتية الحياتية للكاتب؟ بحثت في الخطوط العامة لبعض السير, فاتضح لي أن محمود درويش, بعد أن شفي من عملية قلب دقيقة, أدرك أن حياته أصبحت قصيرة, سجل مقاومته للموت بالكتابة علي الحجر في جدارية لا تفني( بعد فنائه) وبتقنيات الإبداع الشعري الذي يقاوم الموت, شأنه في ذلك شأن أي عملية إبداعية تقاوم الموت بالإبداع, أما دلالات تغريدة البجعة, للدكتور ذكي نجيب محمود, فهي ذاتها دلالات سيرته الذاتية, لكاتب دخل مرحلة الشيخوخة ويسترجع حياته ويتأملها متوحدا مع ذاته قبل أن يتوحد القارئ مع ذاتيته السيرة الذاتية لطه حسين, كنموذج أصيل] تزودنا بتجارب حياتية وخبرات نفسية( حقيقية) لا حدود لها, نضيفها إلي تجاربنا وخبراتنا المحدودة, فتزداد خبراتنا اتساعا وشمولا وعمقا, وغني عن البيان أن السيرة الذاتية, للطفل والصبي والفتي والشاب والأكاديمي والثائر والمعلم الخامس للتنوير طه حسين, بعد الطهطاوي, أحمد لطفي السيد, قاسم أمين وسلامة موسي], تجعلنا في دهشة متواصلة من هذا الصبي الذي ولد في بيئة فقيرة, جاهلة, فقد بصره نتيجة لها, ولكنه استبدل عمي البصر بسلامة البصيرة, صارع الفقر والجهل وقضي عليهما بالمعرفة, التي كانت نورا لعقله وتنويرا متواصلا لكل من بني وطنه, وإذا به بالإرادة يفوق أعمال السحر, الفتي الصعيدي الأعمي يحصل علي أعلي شهادات جامعة السوربون, يعود إلي مصر, يصارح الجميع, يصدمهم, يثير ثائرة الكثيرين عليه, لايتوقف عن مواجهة تحديات مجتمع جاهل وفقير, يقف في صف المعذبين في الأرض ويسعي لاقتلاع شجرة البؤس, في دراسة لي عن فيلم دعاء الكروان, كتبت أن آهات فقراء البادية والحضر كانت تتماهي في آذان طه حسين في روايته دعاء الكروان], يرقي في وظائف الدولة العليا ويصبح وزيرا للمعارف ويعلن صيحته الشهيرة, التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن, ثم يرحل طه حسين عام1973 بعد أن يؤسس مستقبل الثقافة العربية, مستقبل ركائزه دولة مدنية وثقافة مستنيرة, قوامها العلم والعقلانية, والعدالة ليس في توزيع الثروة فحسب وإنما في المعرفة أيضا, ورغم أن أوراق عمر لويس عوض, المعلم العاشر للتنوير] وأيام طه حسين وسيرة اللبناني سهيل إدريس, من أكثر السير كشفا للذات وبأقصي صراحة في المناخ الديني السياسي الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتنا العربية, فإن الدكتور عصفور يري لفتت نظري الأيام لطه حسين, إلي جانب آخر من جوانب السيرة الذاتية العربية, وهو ما يمكن أن يكون مدخلا إلي تحديد خصوصيتها, فهي لا تخرج عن تغريدة البجعة أو جدارية درويش أو مرآة عبد الرحمن بدوي, لكنها لا تتطابق مع دلالة الاعترافات بالمعني الغربي, التي تحوي اعترافا بالمعني الغربي المسيحي, بينما تحوي حكيا ذاتيا في السيرة العربية الذاتية ويضيف أن وصول الديمقراطية والحرية التي تنعم بها المجتمعات الغربية إلي أبعد مدي خصوصا العريقة في تراثها الديمقراطي, خلقت مناخا رحبا كل الرحابة في استجابة القراء للكتب, واستجابة المشاهدين للفنون البصرية كالسينما والمسرح ومسلسلات التليفزيون وفنون الرسم وأبرز أمثلته, من عدة قرون] مشهد خلق أدم المرسوم علي سقف الكنيسة السيستينية في روما والذي أبدعه مايكل أنجلو بتكليف من الباب يوليوس الثاني وأنا أقرب إلي رأي د.عصفور, دون الانبهار بأن الغرب يتمتع بحرية حقيقية إلي ما لا نهاية] بأن ارتفاع مستويات الوعي الثقافي ورحابة أفق القيم الاجتماعية الغربية واتساع دوائر الحرية بكل أبعادها هو الذي جعل استجابات تلقي الإبداع من القارئ أو المشاهد الغربي استجابات ذات أفق مفتوح والعكس تماما في استجابات القارئ أو المشاهد العربي الذي تربي في مناخ مختلف, وأنا لا أترفع عن ثقافتي العربية والإسلامية التي تربينا عليها ولكني أوضح, لماذا يعمد كاتب السيرة الذاتية العربية إلي إخفاء خصوصياته, فالأغلبية المطلقة لا تذكر من حياتها إلا ما تراه رافعا من قدرها ومكانتها عند القراء, وليس طبقا لتصور القراء عن كاتب السيرة, إن قصور الحريات في عالمنا العربي, وشبه انعدام البوح بكينونه كاتب السيرة وكثرة أجهزة الرقابة جعل مساحات المنهي عن النطق به في خطابي الإبداع والسير الذاتية, مساحات شاسعة, فعندما تقرأ أنا للعقاد وحياتي للطفي السيد وأحمد أمين وغيرهم الكثير, فلا شئ فيها يشوب صاحبه, ثوبه نقي نقاء كامل وأبرزها مذكرات أستاذ الفلسفة دكتور عبد الرحمن بدوي, أستاذ أنيس منصور] الذي لم يسلم أحد من حدة لسانه في الهجوم علي الآخرين, بينما لا تجد في مذكراته إلا كل ما يرفع من قدره ومكانته, وكأنه يحرص لا شعوريا علي أن يجعل من نفسه نموذجا للاحتذاء به ولكن ما العمل للفكاك من مناخ بيئة المجتمع العربي؟ تحايل كتاب عباقرة لكتابة سير ذاتية من خلال قالب الرواية بشكل عام وروايات النشأة بشكل خاص, كتب العقاد حبه الفاشل لممثلة شابة آن ذاك في رواية سارة, وانتقم من محبوبته بالخيال الروائي, فشفي جرحه. وصور طه حسين بعضا من هواجسه في رواية أديب, وكتب إبراهيم المازني عن حبه وعشقه في روايتي إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني وإن فطن القارئ إلي تورطه في الروايتين وكلاهما باسمه, وكما اشتهر توفيق الحكيم بالبخل في حياته اليومية فكان أشد حنكة في استثمار كل مراحل حياته عندما وزعها في رواياته, عن طفولته كتب عودة الروح, وعن شبابه في باريس كتب عصفور من الشرق, وسار علي دربه يحيي حقي, ابن السيدة زينب] وكتب قنديل أم هاشم, ومنهما تعلم خيري شلبي الذي وزع حياته ومن عرفهم علي رواياته وأبرزها البيات والنوم وكأنها موال, علي دربه كتب محمود الورداني رواية بيت النار وغيرهم ما سبق كله في كفة والكفة الأخري هي رمانة الميزان, كفة نجيب محفوظ في الرواية ويوسف إدريس في القصة القصيرة حيث كسرا طوق ما هو غير مباح, كتبا سيرتهما الذاتية أكثر من مرة وكسرا حصار التخلف علي الموهوبين, وهكذا تبقي الرواية ملاذا آمنا لخطاب الذات الذي يجد تحت راية خيال الرواية آفاقا أرحب من جمود تقاليد اجتماعية مطلوب من كاتب السيرة أن يكتب من خلالها, وهو الأمر المستحيل ومع طغيان السيرة الذاتية الذكورية في عالمنا العربي, هناك مذكرات هدي شعراوي وهناك مذكرات( نادرة) لزوجة الخديو عباس حلمي الثاني المدللة, الأميرة جويدان, والتي نفهم منها الكثير عن العشق المتبادل بين الخديو إسماعيل, جد زوجها] والإمبراطورة أوجيني, وإخلاص أوجيني لإسماعيل حتي وفاته وزياراتها لقبره في مسجد الرفاعي بالقاهرة إلي أن رحلت وإذا انتقلنا إلي أجيال معاصرة, نتوقف عند الدكتور سعيد توفيق أستاذ الفلسفة وعلم الجمال بجامعة القاهرة, والذي تتفق أو تختلف مع رؤاه الفلسفية إلا أنك لا تخطئ رهافة الحس التي يتمتع بها هذا الفيلسوف الإنسان, في كتابه الخاطرات( التأملات الأولي في ظاهرات الحياة والوجود) يري توفيق أنها كتابة غير نوعية بينما أراها عماد السيرة ذاتية ويري توفيق أنها ليست خواطر وإنما خاطرات لأن الخواطر هي ما يصدر عن العقل فقط, أما الخاطرات فهي ما خطر بالبال والشعور ولكنه خضع للتأمل, فصار أفكارا وتأملات مخضبة بالشعور, الجميل في الخاطرات أنه محاولة للخروج بالفلسفة من قاعة الدرس إلي الميدان الثقافي الأرحب وحيث تتنزل فيه الفلسفة من برجها العاجي, أشبه بسيرة ذاتية] لتتغيا مواطن الجمال وهموم الوجدان حيث يطرح توفيق إشكالياته مع أحلام الطفولة, ترانيم الليل, ذاكرة الليالي, الروح والروائح, الحنين إلي الرومانتيكية, الأغنية والعصر, الموسيقي, المبدعين في عالم متخلف, الحنين إلي المكان, حميمية البيت, ما الصداقة؟, كلبي الحبيب, ما الأخلاق؟, ما الدين؟, هوس المحبين, الوجود الزائف, ما الابتسامة؟ جلال الموت, ما غاية الحياة؟ المصري القديم يبدع ليستبقي الحياة. ورغم البعد الفلسفي في كل كتابات توفيق, إلا أن البوح فيها بالوجود الحقيقي لكاتبها هو منطلق صراحتها وصدقها. الكاتب: مخرج سينمائي كاتب روائي رئيس الجمعية المصرية للتنوير