تلمَع يا بيه؟ تمسح يا .....؟ مشهد آخر. كثيرا ما يتسلل علي سطح ذاكرتي.. أقف الآن محاولا نسيانه.. رغم ذلك ينساب إلي مخيلتي دون عناء.. تبدو صورة الأب.. الوجه الأسمر والشعر الأبيض.. محني الظهر قليلا.. ويبدو أكثر انحناء في نهاية المشهد.. في الجانب الآخر الأم بملابسها الرثة يظهر عليها الإعياء.. وهي تمسح الغبار عن النوافذ. والبيت العتيق يطلب التنظيم. وأجدني في ركن قصي.. والبطن منتظرة ما تجود به أطباق "سيدي" مشهد يومي معاد أحاول نسيانه أو حجب الرؤية فلا أستطيع.. كنت أنا.. أقصد هو.. قصير القامة.. نحيل الجسد.. يرتعش لدخول الهواء البارد من فتحات جلبابه.. ويكاد يقع فالسماء فوقه تهتز.. والرياح تداعبه.. وفتحة حذائه تلتهم الاتربة.. مشهد يغلب عليه طابع السخرية.. لذلك الجو المعتم بتتابع التفاصيل الخالية من لمسة ضوء. توالت خطوط السنين.. لم يتغير شئ في الموقف.. أو أي ادعاء يعلمني بلحظة برق... شعور قاتم لا أستبين منه مجرد نقطة انطلاق لحياة أخري. وكثيرا ما تقع العينان علي الأشياء فلا تجد.. فقد تري المذيعة وهي تخبرك بسهرة مليئة بالسعادة.. الاطفال يلعبون في حبور.. والأزهار تلف المكان.. وسيدي جالس لم ينته بعد من عقد الصفقات. والأم تأمر بما سوف يطهي اليوم.. والهاتف يرن ليكشف عن موعد قدوم الابن من أوروبا بعد شهر العسل... وفجأة ينقطع التيار الكهربي.. لأفيق من رؤيتي.. وكلما حاولت تذكر هذا المشهد فلا تظهر غير صورة أبي. - تلمَع يا بيه...؟ - تمسح يا .... ؟ جاوز الثمانين بأعوام وشهور وأيام.. يضع الصندوق بجانب خصره.. رابطا اياه بحبل يعتلي كتفه.. ليت البيه سمح لأبي أن ينظف حذاءه.. لكنه أبي.. حز في نفسي هذا.. أبي الذي إذا رفع يده انسلخ منكمشا.. احتواه الزمن بكل جبروته.. تشعب فيه وقبع داخله.. اصبح كالبيت الآيل للسقوط.. كثيرا ما وقف موقف الصمود تجاهه.. يسير ويتركه وراءه يتجه صوب المحطة منتظرا ميعاد القطار.. الاقدام تزحف نحو متسخة الجبين وبإصرار لا توليه اهتماما.