«مائة عام من الحرب إلى السلام» ندوة حوارية بجامعة القناة (صور)    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    المالية:الاستثمارات الخاصة ارتفعت بنسبة 73٪ لنرى إمكانيات قوية لقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتصنيع وتحلية المياه    الاقتصاد التونسى ينمو بنسبة 4.2% خلال الربع الثالث من 2025    أسامة ربيع: عبور سفن عملاقة من باب المندب إلى قناة السويس يؤكد عودة الأمن للممرات البحرية    الاحتلال يحاصر البلدة القديمة بالخليل تمهيدا لعيد "سبت سارة"    اليابان تحتج على تحذيرات السفر الصينية وتدعو إلى علاقات أكثر استقرارًا    20 مصابا بانفجار في منطقة صناعية بمدينة إيزيزا الأرجنتينية    جولف مدينتي يحصد جائزة World Golf Awards كأفضل ملعب في مصر وأفريقيا لعام 2025    فينيسيوس جونيور يقود هجوم البرازيل أمام السنغال وديا    جيراسي وهاري كين على رادار برشلونة لتعويض ليفاندوفيسكي    المصارعة تشارك ب 13 لاعب ولاعبة في دورة التضامن الإسلامي بالرياض    ضبط نصف طن بنزين قبل تهريبه للسوق السوداء بالفيوم    الداخلية تكشف ملابسات تضرر مواطن من ضابط مرور بسبب «إسكوتر»    جنايات بنها تصدر حكم الإعدام شنقًا لعامل وسائق في قضية قتل سيدة بالقليوبية    انطلاق سوق القاهرة السينمائي بمشاركة 20 جهة عربية ودولية    سفير الجزائر عن المتحف الكبير: لمست عن قرب إنجازات المصريين رغم التحديات    القاهرة للعرائس تتألق وتحصد 4 جوائز في مهرجان الطفل العربي    تعرض الفنان هاني مهنى لوعكة صحية شديدة.. اعرف التفاصيل    المجمع الطبى للقوات المسلحة بالمعادى يستضيف خبيرا عالميا فى جراحة وزراعة الكبد    بعد قلق أولياء الأمور.. استشاري أمراض صدرية تكشف حقيقة انتشار الفيروس المخلوي    أبو الغيط يبدأ زيارة رسمية إلى الصين لتعزيز الحوار العربي الصيني    وزير الصحة يبحث التعاون مع البنك الدولي والسعودية في تنمية رأس المال البشري    استجابة لما نشرناه امس..الخارجية المصرية تنقذ عشرات الشباب من المنصورة بعد احتجازهم بجزيرة بين تركيا واليونان    تقرير: مدرب شبيبة القبائل يستعد لإجراء تغييرات كثيرة أمام الأهلي    عاجل| «الفجر» تنشر أبرز النقاط في اجتماع الرئيس السيسي مع وزير البترول ورئيس الوزراء    دعت لضرورة تنوع مصادر التمويل، دراسة تكشف تكاليف تشغيل الجامعات التكنولوجية    البط والأرانب بكام؟.. أسعار الطيور البلدى اليوم فى أسواق الإسكندرية    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    ضبط 15 شخصًا لقيامهم باستغلال الأطفال الأحداث في أعمال التسول    موجة برد قوية تضرب مصر الأسبوع الحالي وتحذر الأرصاد المواطنين    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    وزيرة التنمية المحلية تفتتح أول مجزر متنقل في مصر بطاقة 100 رأس يوميا    «الزراعة»: إصدار 429 ترخيص تشغيل لمشروعات الإنتاج الحيواني والداجني    آخر تطورات أسعار الفضة صباح اليوم السبت    «الطفولة والأمومة» يتدخل لإنقاذ طفلة من الاستغلال في التسول بالإسماعيلية    في ذكرى وفاته| محمود عبدالعزيز.. ملك الجواسيس    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    هشام حنفي: محمد صبري عاشق للزمالك وعشرة 40 عاما    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    الشرطة السويدية: مصرع ثلاثة أشخاص إثر صدمهم من قبل حافلة وسط استوكهولم    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    طريقة عمل بودينج البطاطا الحلوة، وصفة سهلة وغنية بالألياف    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    فلسطين.. جيش الاحتلال يعتقل 3 فلسطينيين من مخيم عسكر القديم    نقيب المهن الموسيقية يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    نانسي عجرم تروي قصة زواجها من فادي الهاشم: أسناني سبب ارتباطنا    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بحر التيه
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 03 - 2015


في الليل سكنني الشوق والحنين و أضناني ضوء ذاكرتي .
همت في الطرقات لا صوت لا همس، فقط صليل قرقعة حذائي علي الرصيف الأسفلتي... خذلتني أفكاري و أشباح منتصف الليل اللامرئية و الأنوار الكابية و المباني الهزيلة و الغسيل المنشور علي أحبال مهترئه: جثمت علي صدري و أتلفت حركة زفيري، عرجت علي حديقة الميدان أفزعني نعيب البوم و نقيق الضفادع، أخذت أسير ببطء ثم بسرعة و لكن السير لم يكتمل، فقد أدهشني وجود طفلة صغيرة في هذه الساعة المتأخرة.......منكمشة علي المقعد الخشبي تبحلق بعيون يملؤها الخوف، درت حولها ببطء و صمت.. مددت يدي تحسست شعرها، تأكدت أنها جسد حي و ليست تمثالاً من حجر، أمسكت بذقنها رفعت رأسها، أذهلني هذا الوجه الذي يبدو لي أنه لامرأة عجوز.. بصعوبة منعت نفسي من الهرب درت بعيني أتلصص علي الخلاء الذي يسيطر بسطوته علي الحديقة.
لرائحة العشب المندي بهاؤه، استنشقته وانتعشت روحي، أدرت وجهي وهبطت بيدي مربتاً علي رأس الفتاة المجهولة، أصدرت حركة متحفزة و شوحت بيدها أمامي.....
جلست بجوارها و حاولت طمأنتها.... كانت ترتعش تحت دثارها، أخذت قدماي تتأرجحان كأنهما معلقتان في الهواء، لا نجوم أمامي فالسماء تغرق في سواد قاتم..... جسدي بارد، أحس بالظمأ، تنتفض الطفلة هاربة من جواري ...
أحس بصوت تنفسها عالياً ويبدأ سعالها يختلط مع سواد الليل ووحدتي القاتلة، ألمح شبح امرأة قادماً من عمق الحديقة في اتجاه الطفلة، ترتعش شفتي و ترتعش الفتاة في حضن المرأة ......أرنو إليهما، المرأة تفرك جسد الطفلة محاولة تدفئتها، تتسرب البرودة ببطء من جسدي، يغمرني الدفء، أحن إلي حضن أمي و أنا مكتنز بالنعاس تداعبني الخيالات، أشتهي رائحتها، و تكون هي وسادتي الملونة وشرشفي الأبيض، تسير المرأة حاملة الطفلة في حضنها، تغادر المكان....
أترك طفولتي في خلاء الحديقة، كسحابة في ليالي الحصاد أعدو وراءهما دون أن أطاردهما، أتسكع متدحرجاً في سعال خشن يائس، أبحث عن نجمة مضيئة و قمر ضاحك، أصطدم بلحم مشبع بالآلام وطافح بالإثم.....
تراودني رغائبي وشهواتي الخامدة، مر زمن لم أستمتع بدفء جسد ساخن ، لم ألمس نهداً نافراً ،و لم اهصر شفاها، و لم أنتفض من اللذة ولم أبك بحرارة في حضن امرأة شهية، و لم أتشمم عطرها.
في البار شربت كأساً، تناخبنا أنا و زبائن البار، بريق زجاجات الخمر يزغلل عيني و يشعل رغائبي ربما لأن الخمر تلهب عواطفنا و تذيب الأسي و تجعل وحدتنا تخمد لبرهة من الزمن و تمنحنا العزاء، لكنها أبداً لا تمحو الألم، ليل الخمارة طويل و ليلي أنا مجنون...أغني بصوت عال، تلعب برأسي الخمر، يأخنني السكر و أصبح نديمة ...كانت تجلس هناك تشع صخباً، مفعمة بالشهوة،شفاهها مبللة برغوة النبيذ، فوضوية النظرة والرغبة، تبحث عن شهقتها المكتومة، أشرب الكأس وراء الكأس، أثمل، يموج الكأس،أرشف جرعة فتندلق علي شفتي، يرق قلبي و ينبض علي ثغرها الحائر، أداعبها بابتسامة، أدعوها لكأس، فتبادلني الدعوة بقبلة طائرة ورفرفة هدبين، تركنا البار نحمل رغبتنا بين أنامل أيدينا المتشابكة، نمارس الحب دونما تعارف بمتعة فائقة ومزاج بكر ة......، تودعني تاركة رائحتها بين طيات الفراش و أدخنة المصباح الخافت.
في الصباح بدا لي أن الشمس خرجت من عباءة ليلة البارحة، يزلزلني رحيل روحي المؤقت و تركها منكسرة علي الشرفة المجهولة، مسربلة بغبار الشجن، منتظرة شعلة قد أعود بها إليها، يطول الانتظار،أخترق الشوارع، أقابل الغرباء،أحدثهم عن مدينتي و يحدثونني هم عن بلادهم البعيدة، التي أتوا منها تحملهم سفن الحزن في دجي اليأس،تركوا روحهم مثلي علي شرفات منازلهم و أتوا يقتسمون كئوس الذل والغربة، يخفون أسماءهم و أحلامهم تحت دمائهم، و تبقي ملامحهم دائماً مدهوشة، يرحل من عيني التفاؤل الذي يسكن في عيونهم،لا شيء غير الخيط الواهن يربطهم بنار الرعب، يوشك أن يداهمني ليل الغسق الأول، يلمع في الأفق المعتم فتيل محاولاً علي استحياء إنارة ليلي الذي يداهمني مباغتاً، أطوف في حومة الذكري، استرجع جلسات أصدقائي ، أفراحهم، أحزانهم، تتزاحم أشجاني، أبحث في انحناءات الطرق و الأماكن عن وجوههم و عطرهم و أحلامهم الذين أسكنوها السحاب و آنسوا بها وجوه النجوم، التحيات لهم، و أسأل نفسي أغداً نلتقي؟ متي؟ أيمكن أن يثمر نخيل فرحنا من جديد، أن نستعيد نهر الصداقة ونتمدد فوق ضفته، نتشمم رئة الأرض و الطين الممزوج بدموعنا الضاحكة؟ كم أحن لحكايتنا عن الحب و العشق و أحلام المستقبل، تتسابق ظلالنا أمامنا، نعطي وجوهنا للريح نتوغل في بكارة الأشياء و عندما يدركنا التعب نتذرع بالحكمة و نفترق.
من آخر الدنيا أتيت، حاملاً أحلاماً و بضع قصائد وأسئلة، يقايضني الزمن و تحفر التجاعيد علي وجهي أحزاناً، أسخر من نفسي، و من شعري، من اسمي وصوتي الذي انشرخ وأجهش راثيا ذاتي و ذوات الآخرين الذين يتعاطون لغتي، تحاصرني الأحرف و توقظ الألم المحفور في نافذة الذاكرة...أطير بلا نهاية.... لا أعرف أين تحط أجنحتي؟ و أين تعربد غربتي التي تحاصرني و تميتني كل لحظة ميتة مجزأة بلا جنازة أو تابوت.
أعبر نيراناً، لأدخل في أخري تضيق مساحة الرعب و الدهشة و كأن النار تفضي إلي النار....تؤججها أشعة الغربة .....ملعونة عتمة الأرض و رجفة الليل الظمآن.
عندما لقيته كان يجلس منزوياً في ركن الحجرة التي سأشاركه فيها، نحيلاً، باسماً، ممتلئ الشفتين، كثيف الحواجب،ذا أنف شامخ، ألقيت التحية و أومأ بأخري محبوسة في شفتيه، تمر علينا الليلة الأولي ثم الليلة الثانية و في الليلة الثالثة تنحرنا وحشة المنفي، و تعب الليل، يمتد ليلنا ليلبسنا رداءه الذي لا يشف فينا، ولا يستر عرينا.
خيوط الحزن تغزلها العيون، تسكبها نتف من ثلج ونار، حين تهب ريح الغضب تسري في أبداننا رعشة وجيف القلب الذي داهمه النسيان.
شئ من العناء وحدنا، أوراق الكتب، لفائف الدخان، الخمر الرخيصة......
لكن القلق هو الذي جعلنا توءمين... نعم القلق جعلنا نتلمس خطانا و نقتسم الرزق، وحيدين أمام العالم الصاخب الصامت، نخشي أن نغامر في ليالي الشتاء، نتدفأ بسيرة الأهل والأحباب و عوالم مملوءة بالناس والبيت والشمس والنخيل والنساء والعربات و الليل الأزرق وأغاني النجوم المضيئة، وأحداث الوطن الجسام، نقرأ الرسائل ......نغرق في صمت ثقيل، أصغي إلي آهة منه مكتومة، يغادر الحجرة، أدور في الفراغ علي نفسي، أري نفسي طريحة علي الجسر و وجهي يشحب.
في الصباح استيقظت مطوي الأهداب ولم أجده كان قد غادر ولم يلق علي التحية، جررت قدمي الثقيلة أبحث عنه في مقاهي المدينة، أتلمس الخطوات، أراقب الوجوه في المقاهي التي تحمل أسراراً صغيرة لكنها لا تخبرني عن مكان رفيقي، تلثمني ريح الشك والحيرة و ترمي بي في بحر التيه قزماً مغلق المقلتين جريحاً، يسقط الأمل يرعش ظله فوق أوراق شجر مصفرة نأي عنها المطر و حنين الغريب عندما يستريح في ظلها، أسمع صوته يجيء ........ يحمله الخلاء وئيداً وئيداً ، تصرخ الريح، تقتحم صدري المحطم، أشيح بوجهي، أنادي، اصرخ، أهرول باكياً ،آه إن وجهه يستل عني ....عشر خطوات هي عشرة قضبان تفصلني عنه..... الريح تعوي و العالم يدور يلقي بنا في مداره، يسحقنا في وجه نجومه، و تلسعنا كواكبه ...أيها الصباح الشاحب هب لي أغنية تخرجني من بؤسي....هب لي حلماً يأتي بزرقة الماء و رعشة النخل ولون الخضرة و الشمس الوضيئة و الغصن المندي.
من يمنحني السلام والأمان والراحة، من ينقذني من نفسي من الأوحال، من الذكري؟.
ما أطول هذا البحث المضني.
أراه مره ثانية يسعل سعلته المكتومة،كان مرتاعاً .....أبصرت عينيه المبتلتين تراقباني، ظننته يناديني، و للمرة الأولي رأيت ضحكة علي ثغره، كان يحمل في يده ورقة أودع فيها سره، وظلال أشياء عارية، وشوقا قديما و عباءة داكنة تحمل عطر وطن مهشمة مراياه.......
و مضي يحمل صمته و غربته و أغانيه الحزينة ..........أصرخ صرخة المكلوم وصوتي الدامي يمزق وحشة الأيام و رعشة المنفي آه لماذا تتركني أغرق في غربتي وحدي..... لماذا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.