تركض طيف تهرول في عتمة الليل، خائفة وحيدة، ثمة شيء ما خلفها، تجري بسرعة، تزيد سرعتها، تجري في الطريق الذي تسلكه كل يوم، لكن الطريق اليوم مختلف، ما الذي يطاردها في هذه الظلمة الموحشة ؟ ما هذه الخطوات التي تسمعها خلفها، بجانبها، فوق رأسها، في همهمة الضوء الخاشع ظهرت من بين الأشجار المترامية علي جانبي الطريق أشباح وعيون تنبعث منها النار، مازالت تجري، تلهث تتعثر قدماها، تنثني، تقع، تقوم، تزيد من سرعتها، تحاول أن تحلق، لا تقوي علي الاستمرار في التحليق فجناحاها صغيران، يبللها العرق، يهرب ريقها، تصرخ، تلتفت يمينا ويسارا وخلفها، يقترب منها الشبح يقبض علي رقبتها، ينحشر صوتها، تجحظ عيناها، تسقط جثة هامدة، عندئذ تستيقظ، راجفة رعشة، قلبها الصغير يقفز داخل صدرها، تتوه عن المكان الذي يحتويها، رويدا رويدا تري ظهر زوجها يواجهها وأنفاسه المنتظمة تسيطر علي الحجرة، تمد يدها المترددة لتلمس كتفيه لتتأكد من وجوده، تسري في جسمها القشعريرة، شهورا طويلة يأتيها نفس الحلم ، غدا الليل مصدر قلقها وخوفها، شعرت أنها علي وشك السقوط، أنها وحيدة ومتعبة . جالت بنظرها في الغرفة، كم من الزمن مر عليها هنا ومع هذا الرجل، إنها الليلة الأخيرة التي ستمكث فيها، ستغادر في الصباح الباكر، بها رغبة شديدة في أن ترتمي في حضن آخر، لم تعد تطيق هذا الجحيم، لم تعد تطيق هذه الرائحة التي تنبعث من جسده، رائحة القدم والرطوبة، كأنه طائر غريب يجثم علي وحدتها، يستدعي ريح عاصفة تضرب صدرها وبطنها فيوخزها الألم، انسلت من الفراش وذهبت إلي المطبخ، سحبت كنكة القهوة، فتحت الخزانة وجلبت برطمان البن المخلوط بالهال والحبهان، وضعت ملعقة من البن في الكنكة وفتحت الصنبور، أشعلت الموقد وسرحت بخيالها ولم تنتبه إلا بعد أن أحدث فوران البن صوت طشة متعارفا عليها، صبت فنجانها وأشعلت سيجارة، أطلت من عينيها نظرة كغمامة علي وشك الانصهار، كان ضوء القمر يخترق نافذة المطبخ وينعكس علي وجه طيف ويرتمي علي عنقها، نسمات البرد التي تعبر من فجوات النافذة تزيد من رحيلها الداخلي . حنين الذاكرة الموجع يوقظ في أعماقها أشياء ظلت مختفية وراء زمن المرارة والإحباط، لفت ذراعيها حول ساقيها الوهنتين وأراحت رأسها بإسنادها إلي ظهر الكرسي وغاصت في نافذة الذكريات، السكون الأخرس يحرك الكلمات بداخلها، رأت نفسها بين عشرات من الطلبة والطالبات يتجمهرون أمام قاعة المؤتمرات في الجامعة يقرأون مجلات الحائط الساخنة، يتناقشون، يحتدون، يتعاركون، كان يعتلي كرسي ويخطب في الطلبة، قال كلاما عن القضية الفلسطينية، والخيانة، وتخاذل الحكومة، الأمريكان، كان صوته يملأ الفضاء المشحون بالتوتر، كانت يداه النحيلتان تتحركان بشكل عصبي سريع إلي الأمام وإلي الخلف، كانت تأتي أصداء وأصوات من حاملي اللافتات والهتافات الصاعدة إلي الفضاء الفسيح، حملوه علي أكتافهم، وبدأت المظاهرة تجوب أرجاء الجامعة، كانت تراه يعلوويهبط، كان وجهه كوجه أيقونة قديمة غادرت إطارها الذهبي لتوها وأشتعلت بالضوء فازداد الوجه فتنة كفتنة الحكايات والأسرار المخبوءة، أحست بشيء ما يسري في جسدها، ليس خدرا ولا إنتشاء انما شيء من نسيم دافئ . وبعد أن هدأت الأصوات والعيون والحناجر والأنفاس، وبعد تفرق الحشد الصاخب رأته واقفا مع اثنين من زملائه، لاحظ وجودها، التقت عيناهما، أنتابتها قشعريرة واضطراب، مشي تجاهها، مد يده إليها وعرفها بنفسه مدت يديها بخجل واستحياء وعرفت نفسها بدورها، قال لها ما رأيك فيما حدث اليوم، مضي الوقت ولم تنتبه إلا بعد أن جاءت صديقتها واخبرتها أن ميعاد المحاضرة أزف، استأذنته، قال لها، غدا سوف أكون هنا في نفس الميعاد، تكرر لقاؤهما، علمها السياسة والحب، انخرطت معه في كل شيء، بنت عشها في قلبه وتلذذت بعصارة التمدد ونشوة السكن الحر فيه، رمت شوقها كالموج عندما يرتعش رعشته الأخيرة علي الصخور المملوءة أفواهها بطحالب البحر، كانت حياتها معه عرسا دائما. لكن المأزق الكبير أن الحياة تمضي بهما قاسية شرسة مركبة ماكرة، وضعوه في السجن، لم يعترف، قاوم حول جدران الزنزانة إلي لوحة بدون إطار، كتب عليها قصائد حب لها و للوطن، كتب شعارات، رسم نفسه ورفاقه، تعارك مع الضباط والجنود تم ترحيله من معتقل إلي آخر، حاصروه نزعوا منه اسمه وأعطوه رقما أصبح مجرد المعتقل الرقم وكانت مفردات اللغة هي أجهزة التأديب ( الشومة، الفلكة )، إحساس دائم بالخوف والخطر، لا زيارات، لا رسائل، عزلة مطلقة ، كان تعذيبا نفسيا في المقام الأول اكتمل بمزيد من التعذيب البدني، تحطيم الروح والجسد، تحمل، قاوم، تمرد، سقط مريضا حاول الإبقاء علي جسده وحياته، وهنت قدرته ورحل دون ضجيج، جاءها الخبر، صرخت في وجه الفجر، اندس الخنجر بين ثنايا قلبها، أصبح جسمها كالضريح المزين بالزهور السوداء، غابا الشمس والقمر عن حياتها، أغلقت بوابة العالم أمامها، طويت بين ضلوعها حزنا غائرا وعميقا في دمها . كانت تجلس صامتة ساهمة طوال الوقت، بدت كامرأة مبعثرة كشظايا زجاج تحطم لتوه، خاوية الروح والجسد، غارقة في الظلمة والنسيان . لقد كان موته امتدادا لخيبة الأمل والهزيمة والانكسارات المتكررة، إحباط جيل كامل كان يتوق ويسعي للحرية والرهافة والجمال . الأيام تمضي وطيف يزداد صمتها، كانت كشمعة انطفأت في بداية السهرة، تلاشي كل ما حولها إلا صوته الذي كان يتردد في أذنيها فيلهب حنينها، حاولت أن تصرخ مرات ومرات لم تفلح، كان الحصار يشتد ورائحة الموت تفيض من جسمها، من يديها، من بين قدميها ومن الجدران ومن النوافذ المغلقة، كان جرحها بعمق البحر ولون الخمر الأسود، احتفظت بملابسه المملوءة برائحته، التي كان يرتديها عندما شيع جثمانه من السجن ووضعتها في حقيبة واحتفظت بها في دولاب ملابسه، كانت هي سرها المخبأ الذي تلجأ إليه، كانت حين يغلبها الحنين، تفتح الحقيبة تستدعي رائحته من بين نسيج وخيوط ملابسه التي استرخت للأبد، كان يأتيها مبتسما، يقترب منها يداعب خصلات شعرها، يحتضنها بحنان، يقبل عنقها ثم تنزلق شفتاه إلي صدرها ثم إلي نهديها وإلي بطنها ويمتزجا معا في عشق صوفي ما يلبث أن يتحول إلي عشق فاجر ويغيبان عن الدنيا وتختلط ألوان قوس قزح في عينيهما، يمتد بها الحلم ليالي وليالي، وفي كل مرة تفيق علي نشيج دموعها ووحدتها المحرقة، تكلم الجدران، الوسادة، الصور المعلقة وتحدثها " كم أشتاق إليه إلي حنانه وقسوته، ضحكته، تثاؤبه، مشيته، طريقة كلامه، عشقه للحياة، كم أشتاق إلي الشجار معه، اللعب، الحب، زيارة الأصدقاء ....... " لقد انشطرت إلي اثنين، تكابد في شجنها رجفة تخلع القلب . مرت خمس سنوات علي رحيله، جاءها الآخر يطرق بابها ويكلمها عن شبابها الذي سيذوي إذا لم تودع الأحزان، حدثها عن حبه لها من سنوات مضت وعن إعجابه وولهه بها طوال الوقت وأنه يرغب في أن يرتبط بها ويزيل عنها تعب السنين والوحدة القاتلة، رفضت اقتراحه مرات ومرات وتحت ضغط الأصدقاء وضغط أمها وافقت خرجت من شقة ذكرياتها بعد أن لملمت حزنها، كانت مستسلمة كالطفلة، ذهبت إلي شقة الزوج الجديد، كان كل شيء غريبا عليها . كان نهم لا يكتفي منها، كانت تسلم جسدها ببلادة لا مكان عندها للرغبة أوالحب أوالشهوة، كأن روحها هاجرت من زمن بعيد، كان يحس ذلك ويستشاط غضبا ويقول لها مازال الآخر معششا داخلك، لقد مات، مات، أما زلت تعاشرين الموت، طلبت منه الطلاق، لم يستجب، كان يزداد تعلقا بها أكثر، حاصرها، خنقها، سحب روحها، كانت تهذي كثيرا، كان هذا سر انتمائها للطرقات والليل، لقد أنبت التمزق زهور الحزن في راحتيها واستسلمت للجنون، كانت تجلس عند باب غرفتها تبكي نار الحنين والرحيل، كانت تدور وتدور تفتش في كل صوب تفتش عن نجمتها التي رحلت بدون وداع، تفتش عن قصائد الحب التي تاهت في عتمة الليل، أدمنت الهروب إلي نفسها والجلوس وحيدة ترنوإلي اللا شيء، تنبش الذكريات، تدخل أبواب الحلم وتتوغل في صمت رائحة الليل ومن سمائها المبتلة كانت روحها تنبثق وتتكاثر في ريح الشوق . يلزمها وقت لكي تفسر ما حدث لها، تريد أن تخرج من هذا الضيق الذي يخنقها، من طعم مرارة الموت الفعلي، والموت الذي تحياه الآن، تريد أن توقف ملح الدمعات التي تتجرعها في الليل والنهار، قررت الرحيل، خرجت من المنزل صفعت الباب بشدة لم تنظر وراءها، لفحها نسيم الصباح الوردي، شعرت بجسمها خفيفا، أحست أن العالم يولد من جديد فيها، ومن عمق بعيد تفجرت ضحكاتها الحلوة وتابعت سيرها . حواء تتعثر في تلافيف شجرة المعرفة تتلون بنضارة تفاحتها وترسم الشيطان نجمة بنفسجية والغواية نهرا وسماء مقمرة كامرأة ورجل يتماوجان، يتقافزان، يصرخان، ينزلقان، يتأودان، ينتشيان وردة وشعرا حواء أيتها الغافية في مسبحك الأحمر أيتها العارية نهداك يقطران مسك وخمر الروح حزنك يتأرجح، يتحدي الألم يبعث لذته وحدك أنت تصنعين العشق تأتين بالقمر والعطر ليولد ظل الحلم تحملين قلبك الجريح، تصرخين، تنصتين إلي صدي لحنك الذي لن يعزفه احد رجفتك لن تحملها الريح لعصفور الذهب لن تسمعي بكاء فتيات النهر حين يغلبهن شوق العشق وبلور الحب، متاهات الجنون مشتعلة، وآهات ليل الياسمين محترقة والسكاري يبحثون عن صوتهم الضائع في ليلة منسية رمان العشق خلع ردائه ومضي تحول إلي قلب حطت عليه زهور الحب وتمدد عليه الجمال ما أحلي أن تكوني غواية وشيطانا بحرا وشجرة زيتون تحمل الأرواح المتوجه بنجوم الماء لا تبكي فبلورك يغني علي صفائح قمرك الفضي وغوايتك تنسكب شهدا علي أجساد القديسين الذين يحلمون بنهديك وشبقك المرمري.