عمال مصر .. وطنية ومهنية    الصاوي يستقبل الفريق الزائر لضمان الجودة والاعتماد بكلية اُصول الدين والدعوة بالمنوفية    عبدالسند يمامة: الوفد يدعم القضية الفلسطينية ويرفض أي عدوان إسرائيلي على رفح    برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم والتوافق بين أطياف المجتمع    تعرف على مواعيد امتحانات المرحلة الإعدادية في مدارس الأقصر    بارقة أمل    بشرى سارة.. وزير الاتصالات يعلن توفير 65 ألف وظيفة للشباب    جولة داخل قلعة الفسيخ بنبروه في الدقهلية و100 سنة على سر الصنعة (فيديو)    وزير السياحة السعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة على البحر الأحمر    الإمارات ترسل 400 طن مساعدات غذائية إلى غزة    مذابح إسرائيل.. والعداء للسامية!!    البيت الأبيض: الرصيف العائم قبالة غزة سيكون جاهزا خلال أسابيع قليلة    الأونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين بغزة على لتر من الماء يوميًا    الرئيس عباس يطالب أمريكا بمنع إسرائيل من "اجتياح رفح" لتجنب كارثة إنسانية    تعادل روما ونابولي 22 في الدوري الإيطالي    الزمالك يتأهل لنهائي كأس الكونفدرالية بثلاثية في دريمز الغاني    في حاجة غلط.. تعليق مفيدة شيحة على أزمة محمد صلاح وكلوب    "صفقة تبادلية مع برشلونة".. تقارير تكشف موقف بايرن ميونخ من رحيل نجم الفريق    11 ميدالية ببطولة العالم للجامعات.. وزير الرياضة يهنئ الاتحاد المصري للغوص والإنقاذ    بالأسماء.. إصابة 11 راكبًا في حادث تصادم سيارتين ببني سويف    تحذيرات عاجلة لهذه الفئات من طقس الساعات المقبلة.. تجنبوا الخروج من المنزل    انطلاق «الغردقة لسينما الشباب» سبتمبر المقبل    ثقافة الإسكندرية تقدم التجربة النوعية "كاسبر" على مسرح الأنفوشي    جذابة.. إطلالة ساحرة ل ياسمين عبد العزيز في صاحبة السعادة- وهذا سعرها    هل هناك أمور تمنع الإرث ؟ .. أمين الفتوى يُوضح    دعاء راحة البال والطمأنينة قصير.. الحياة مع الذكر والقرآن نعمة كبيرة    هيئة الدواء تحذر من إهمال مواعيد جرعات التطعيم للأطفال    منها تناول السمك وشرب الشاي.. خطوات هامة للحفاظ على صحة القلب    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    «حرس الحدود»: ضبط كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر قبل تهريبها    بروتوكول بين إدارة البحوث بالقوات المسلحة و«التعليم العالي»    "الرعاية الصحية" تشارك بورشة العمل التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية    فيلم «شقو» ل عمرو يوسف يتجاوز ال57 مليون جنيه في 19 يوما    إعلام عبري: 30 جنديًا بقوات الاحتياط يتمردون على أوامر الاستعداد لعملية رفح    رمضان عبد المعز: فوّض ربك في كل أمورك فأقداره وتدابيره خير    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    رضا حجازي: زيادة الإقبال على مدارس التعليم الفني بمجاميع أكبر من العام    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    وزير بريطاني يقدر 450 ألف ضحية روسية في صراع أوكرانيا    لحيازتهما كمية من الهيروين.. التحقيق مع تاجري الكيف في الشروق    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    رفض والدها زواجه من ابنته فقتله.. الإعدام شنقًا لميكانيكي في أسيوط    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    بصلي بالفاتحة وقل هو الله أحد فهل تقبل صلاتي؟..الإفتاء ترد    الليلة .. سامى مغاورى مع لميس الحديدى للحديث عن آخر أعماله الفنية فى رمضان    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية في قرية جبل الطير بسمالوط غدا    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    البوصلة    حسام البدري: أنا أفضل من موسيماني وفايلر.. وكيروش فشل مع مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 12 - 2014

باسم عبد الحليم موهبة جديدة تقدمها "أخبار الأدب" في الصفحات التالية؛ عبر نشر أربعة نصوص قصصية تشي بصوت واعد. قصص تتنوع موضوعاتها، لكن يجمع بينها المسافة التي يضعها الكاتب بمهارة بينه وبين شخصياته. في "المشخصاتي" يوهمنا أننا نتلصص علي لحظة حميمة بين الممثل/ الراوي وبين امرأة جميلة التقاها في مطعم، قبل أن نفاجأ في النهاية بما يدفعنا لقراءة القصة بعيون مختلفة، وفي "ساعة رملية" يحيل بحر الرمل، الذي يمنع الابن من الوصول لأبيه، إلي الحاجز غير المرئي الفاصل بين بطلي "تلويحة للنسيان" المغلفة بالإبهام الفني، وإذا كانت الشخصية الروائية غير المنتهية تلغي المسافة بينها وبين كاتبها في "الكاتب وخواؤه"، فما هذا إلّا لتذكيرنا بولع باسم عبد الحليم بالتلاعب بشخصياته والتأرجح بين خلق الإيهام وكسره.
المشخَّصاتي
استقبلتكِ أيتها الجميلة، في عتمة المدخل، بحفاوة اعتدتها مع الضيفات اللواتي يزرنني للمرة الأولي. أتمني ألا تكون قد واجهتك صعوبة في العثور علي العنوان. هو سهل علي كل حال، يكفي أن تسألي عن فيلا "أحمد فريد" -أو فيلا "المشخَّصاتي"، فالمكان معروف بالاسميند وستجدين ألفًا علي الأقل يدلونكِ علي الطريق.
آه، "المشخَّصاتي"؟. نعم، إنه الاسم الذي كان زملاء الدراسة يلقبونني به. كنتُ أُقلد لهم المدرسين بين الحصص وفي الفسحة، فأطلقوا عليَّ هذا اللقب من باب السخرية. ولكني ما زلت أعتز به للآن، رغم مرور كل هذه السنين.
لا، لم تتأخري يا عزيزتي، جئتِ في موعدك تمامًا. إما هذا، أو أنكِ تأخرتِ لثلاثين عامًا علي الأقل.
تفضلي، المكان كله لكِ، اختاري مقعدك بنفسك
هذه الأريكة؟. ليكن، سنجلس عليها متجاورين إذن، كزوجين متحابين، أو كغريبين في قطار فلا فارق.
ماذا تشربين؟ لقد أعددت لنا زجاجة من النبيذ الأحمر، ماشي. ليكن، تفضلي يا حلوة.
تذكرين بالطبع يوم لقائنا في هذا المطعم الهادئ بوسط البلد. كنتِ تجلسين وحيدة وأنا أيضًا. كم كانت جلستك أنيقة أيتها الجميلة. لم يكن كمثلها شيء، ساقًا علي ساقٍ، وفستانك الحريري الأحمر الذي كاد ينطق، فنجان القهوة التركية في يدك، ترشفين منه ببطء مغو ، وسيجارة رفيعة بين أصابعك يضغط دخانها علي أعصابي كرغبة نزقة. ما لا تعرفينه يا عزيزتي أنني كنت حينها أُراقبك عن بعد. أتأمل كل تفصيلة في وجودك، وأتذوق، علي مهل، صورتك المنعكسة في حدقة عيني.
شوفي، عندي نظرية توصلت لها بعد عمر طويل قضيته في التمثيل المسرحي قبل الاعتزال، ليست الحياة سوي عرض متجدد، نرتجل أدوارنا فيه في كل لحظة. نتأمل الديكور من حولنا، والذي قد يكون بيتًا أو مكتب عمل, أو حتي عربة مترو تعدو في نفق تحت الأرض، كي نحدد إمكانياته. ثم نبدأ في ارتجال المشهد، الأداء والحوار وميزانسين الحركة. ليست الحياة بهذا المعني يا عزيزتي سوي مسرحية إيماءات، تتألف من كل حركاتنا وسكناتنا، ومن حديثنا ولحظات صمتنا أيضًا.
حينما كنتُ أراقبك من مكاني، كنت أفكر في الشخصية التي سأرتديها وأنهض إليك بها، كنتُ أُفاضل بين شخصيتين مختلفتين، بين الضابط الوسيم من فيلم نهر الحب، وروميو العاشق من مسرحية شكسبير. كنتُ حائرًا بين رجولة الضابط الجذابة ونعومة روميو التي تذيب الحجر.
قلتِ إنكِ كنت ترغبين في التعرف إليَّ أيضًا، ولكني ما زلتُ أتساءل عن الشخصية التي كنتِ تنوين ارتداءها حينذاك.
ربما تظنين أن الأمر بسيطً وسهل طالما توافرت لدينا النية لخداع الآخرين. لا يا جميلتي، أنتِ واهمة. ليس ثمة خداع في الأمر، كما أن الموضوع في غاية الصعوبة، إذ إنه يتحتم علينا أن نصوغ أنفسنا من جديد، من الروح إلي الجسم، ومن الرأس حتي أخمص القدمين، وأن نكيّف ذواتنا وفقًا لمتطلبات الموقف.
ماشي، لنري، ماذا يا تري جذب كلينا إلي الآخر؟
بالطبع جمالك كان متوحشًا بالنسبة لي، ولكن هناك أيضًا تلك النظرة التي رأيتها في عينيك، نظرة مشتعلة بالحياة كجمرة نار. ووحدتك، تلك الوحدة التي كنتِ تسبحين في مياهها الرائقة كحورية لا تحتاج لأحد، مكتفية بذاتها تمامًا. لكن... يا تري... ما الذي رأيته فيَّ بالضبط حتي تتقبلي محاولاتي المكشوفة للتعرف عليكِ بهذه البساطة؟
أنا أقول ربما كان شعري الذي وطأه البياض بقسوة، شيبُ رأسي الذي أتركه عامدًا بعد أن اكتشفتُ تأثيره السحري علي النساء. خاصة أنني ما زلت أحتفظ به كاملًا، ولم أفقده في عمري هذا. رغم أن الصلع لا يبدو تجربة سيئة لهذه الدرجة.
كأسًا آخر؟ طلباتك أوامر يا جميلتي
لا، لم أتزوج من قبل. وقد تتساءلين عن السبب في أنني لم أحاول الزواج وتكوين أُسرة. السبب بسيط والله، أنا يا عزيزتي ممثلٌ يعرف إمكانياته جيدًا. وهذا الدور، دور الزوج والأب، لا يناسبني تمامًا، أنا علي أية حال لا أُصدقه علي أي ممثل آخر، ومهما كان حجم موهبته بالمناسبة.
تعرفين؟ في شبابي نصحني أحد أساتذتي في المعهد نصيحة هامة بقيت معي للآن، قال لي: " صدِّق شخصياتك إذا أردت من الآخرين أن يصدقونها"، وربما كان قراري باعتزال المسرح بسبب هذه النصيحة تحديدًا.
ضعي نفسِك في مكاني، في بداية مشواري المهني أديت دور هاملت في عرض استمر لعدة مواسم وحقق نجاحًا باهرًا. جرت بعدها مياهٌ كثيرة تحت الجسر الذي وقفت أشاهد العالم من عليه، أدوار وعروض مسرحية وسفر، تكريمات وجوائز هنا وهناك. نصَّبني كثيرون كأحد آلهة المسرح العظام وخسف آخرون بموهبتي الأرض. حتي عرض عليَّ مخرج شاب في أحد الأيام دور كلاوديوس، العم الخائن لذكري أخيه في ذات المسرحية، عرفتُ حينها أن عليَّ اعتزال المسرح. كنتُ قادرًا علي تصديق تشتت وضياع هاملت تمامًا. بدا لي أكثر واقعية. بينما كان من الصعب أن أُصدق كلاوديوس هذا، باتكائه الفاجر علي نفسه وثقته المفرطة في كل شيء.
هذا سبب، ولكن ثمة سبباً آخر. أحسست أن طموحي صار أكبر من خشبة المسرح الضيقة. فقررت أن أنقله إلي مسرح أكثر اتساعًا يتكون ديكوره من البيوت والشوارع والأشجار وكل شيء حولنا، مسرح أوسع هو الوجود ذاته.
لم أُريكِ الفيلا كلها بعد أيتها الجميلة، كل ركن فيها أثثته علي ذوقي الخاص، وكل تحفة من تحفه انتقيتها بنفسي. كل كرسي وكل لوحة. وهذه المكتبة جمعتها بنفسي كتابًا كتاباً.
تعرفين؟، كثيرًا ما فكرت في أن أُدون يومياتي بانتظام، يومًا بيوم، حتي تتجمع لديَّ حياتي كلها مكتوبة علي الورق. ثم أطبعها في كتاب أنيق، ينضم إلي رفوف مكتبي هذه. ولكني كلما فكرت فيما سأُدونه فيها أجده محدودًا للغاية، يتراوح ما بين قصص غرام بنهايات حزينة، أو مشاعر لشخصيات أُخري تنتابني أثناء اشتغالي علي أدواري في المسرح، مشاعر لا تخصني. وأجد أنني لا أملك ذاتًا كي أكتب عنها، لا يستطيع الممثل صون ذاته وحفظها من التبدد، عليه كي ينجح في أدواره- أن يفقدها، ومن ثم فإن شخصية الممثل تنحلّ في الشخصيات التي يؤديها. فأعدل عن الفكرة كلها، تاركًا يومياتي تلك طعامًا للنسيان. بم كانت سيفيدني تدوين اليوميات علي أي حال؟.
كانت صفحاتها ستظل تتراكم حول جثتي الفانية، حتي تدفنني تمامًا كرمال القبر.
أظن أن حياتي ستنتهي بهدوء في أحد الأيام، وسأموت تاركًا خلفي تلك المكتبة دون كتاب واحد يروي قصتها. وأصير ذكري يتداولها الناس لبعض أيام أو أسابيع، ثم تنتهي، وأنتهي معها، إلي عالم النسيان. من يدري؟، لعلَّ هذا سيكون أفضل.
لا، لا تقلقي، لن أموت الآن، ليس الليلة علي الأقل.
يااه، لقد انتهت الزجاجة تقريبًا. هل شربنا بالفعل كل هذا؟
ستصعدين أيتها الجميلة هذا السلم الملتف حول نفسه كثعبان وأنتِ تترنحين. تسندين رأسك علي كتفي كطفلة، وتنطلق ضحكاتك ناعمة بين قبلة وأخري، لعلمك هذا السلم صعدت عليه جميلاتٌ كثيرات، لكن ولا واحدة منهن كان لها جمالكِ الذي أربكني وعقد لساني. كنت قد فقدت القدرة علي التلعثم أمام الجمال. هذا الشيء الذي أحسست به مرة واحدة في شبابي ثم غادرني حتي نسيته تمامًا، عاد إليَّ مرة أُخري. شعرت به قويًا عفيًا، كأنه لم يغب يومًا.
تتركين ذراعي أيتها الجميلة وتسبقينني بخطواتٍ قليلة نحو الباب المغلق، تديرين مقبض الباب وتدفعينه فيظهر من فرجته السرير المعّد لاستقبالنا سويًا. تدخلين وعيناك المكحلتان تتجولان في الغرفة، كأنما تبحثين عن شيء ضاع منكِ.
لا تقلقي، سنجد معًا الآن كل الأشياء التي أضعناها.
أتريثُ أنا قليلًا قبل الدخول، وأُدير بصري في أرجاء الفيلا الخاوية وراءنا. تبدو أمامي كساحة مسرح مكشوفة بالكامل. أتخيل جمهورًا ينظر نحوي في ترقب، أعتدل في وقفتي منتبهًا ثم أنحني محييًا إياه في تواضع، ثم أدلف وراءكِ إلي الغرفة، وأُغلق الباب خلفي.
ويسود الصمت للحظة تطول كدهر.
ثم ينفجر التصفيق حادًا مدويًا.
ساعة رملية تحسب يومًا واحدًا
لم يرث عن أبيه شيئًا يُذكر
فقط بضع صور قديمة وأوراق شخصية وطاقم من أقلام الذهب. وساعة رمل أثرية لا تزال تعمل للآن، ورثها أبوه عن جده، عن جد أبيه، خلال رحلة زمنية قدرها بمائة عام أو يزيد، قطعتها الساعة الرملية في ثبات، كي تصل إلي حوزته سالمة، بحالتها، كأنها لم تُمس.
مع انتقاله مؤخرًا إلي شقة أوسع، صار بإمكانه أن يُخرج ساعة الرمل من صندوقها الخشبي، دون أن يخشي عليها من الكسر في فورة من فورات لعب الأطفال. جادلته زوجته حول المكان المناسب لوضع الساعة، دون أن تشوه المنظر العام لديكور الشقة، والذي صممته بنفسها. كان يعلم أنها لا ترغب في إخراج الساعة للعرض، لكنها تتحاشي إثارة غضبه.
وقفتْ زوجته في منتصف الصالة ويداها في جانبيها، تتأمل مساحة الشقة حولها، وتحاول أن تُقرر أين سنضع
الساعة.
اقترحتْ غرفة النوم الرئيسية فاقترح هو الصالة، ثم اقترحتْ غرفة المكتب فاقترح مدخل الردهة، حتي اتفقا علي وضعها فوق البوفيه، في غرفة السفرة. وافقت زوجته علي مضض، بينما كان مقتنعًا أن الساعة ستشكل قطعة ديكور رائعة لتزيين البيت الجديد.
تحسب ساعة الرمل يومًا كاملًا علي فترتين، يتدفق خيط رفيع من الرمل عبر أنبوب ضيق بين بلورتيها الزجاجيتين في اثنتي عشرة ساعة كاملة، ثم تُقلبْ لتعود الرمال إلي موضعها في اثنتي عشرة ساعة أخري. كثيرًا ما ضبط نفسه يُراقب سريان خيط الرمال الرفيع الواهن في الأُنبوب الضيق، ويفكر في أن ليس رملًا ما يراه، بل ثواني ودقائق وساعات، تنسال أمامه وتضيع، دونما أمل في استعادتها.
ربما كانت الساعة بالفعل لا تحسب سوي يوم واحد، ولكنها بالنسبة له ظلت تحسبه منذ الأزل وستظل تحسبه للأبد، وهي فكرة مخيفة بعض الشيء حينما يتأملها.
للغرابة لم تثر الساعة فضول أيّ من زواره كما كان يتوقع، كأنهم لم يلحظوا وجودها بالمرة. وعندما كان ييأس، ويضطر أن يشير إلي وجودها، ويُحدثهم عن قيمتها وتاريخها الطويل الذي للمصادفة- ارتبط بتاريخ أُسرته نفسه، كانوا يكتفون بابتسامة مجاملة، وهزة رأس تتصنع اهتمامًا زائفًا، وكأن وجودها أمر مسلم به، لا يستدعي الدهشة.
من آثار وجودها فعلًا كان أصغر أبناءه الذي يبلغ من العمر عاماً ونصف العام، ظل يتقافز حولها ويتأملها مندهشًا لعدة أيام، ومع الوقت صارت لعبته المفضلة، يدور هنا وهناك، ثم يعود إليها، محاولًا، رغم قصر قامته، أن يطولها بيده الصغيرة في موضعها العالي، وفي كل مرة لا ينجح.
كان ينظر إلي ابنه، ويفكر أنه في طفولته كان يخاف من هذه الساعة. يراها في كوابيسه، ويتخيل أن بلورتها الزجاجية الشفافة ستنكسر يومًا فجأة، ولن يتوقف خيط الرمال مع ذلك، سيستمر مُسالًا إلي الأرض، ويُغرق كل شيء في بحر عميق من الرمل.
وبعد أن تزوج وأصبح أبًا، صار يُشبه صورة أبيه المعلقة علي الحائط في بيتهم القديم. لم يعد يخاف من شيء، كما لم يعد يري الكوابيس.
قالت زوجته إن - في مرحلة ما من أعمارنا - لا بُد لنا من أحدٍ نشبهه. فكر في ملحوظتها العابرة، التي بدت عميقة بشكلٍ غامض. إذا كان صحيحًا فهل كان لا بُد أن يكون أباه؟، ثم راودته فكرة أغرب، هل ثمة علاقة ما تربط بين هذا الشبه، وبين توقفه عن الخوف من الساعة الرملية القديمة؟
أمعن النظر في المرآة إلي الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو سواد رأسه، وأدرك أنه قد تأخر كثيرًا في طرح أسئلة كهذه.
كان يتمدد مسترخيًا علي كرسي الصالة، مغمض العينين، بين اليقظة والنوم، يرتدي بيجامة صيفية خفيفة وعلي ساقه ترقد الجريدة التي كان يُطالعها منذ قليل، عندما انتبه علي اليد الصغيرة تجذبه من كم البيجامة، بينما الصوت الرفيع ينادي قائلاً: "بابا يالاَّ".
أزاح الجريدة جانبًا ورفع الصغير من تحت إبطيه، وأجلسته علي حِجره وقبلَّه في فمه مبتسمًا، ولكن الصغير بدا مصرًا علي النهوض، طاوعه غير فاهم كي لا يبكي، فقد خرجت أمه للسوق من نصف ساعة، وإذا بدأ في البكاء الآن فلن ينجح في إسكاته ثانية.
كان الصغير يسحبه من يده في اتجاه البوفيه الذي تستقر فوقه الساعة الرملية، وعندما وصلا، رفع يديه نحوه وهو يقول: "أوبا بابا... أوبا".
رفعه ثانية وحمله علي ذراعه، بدا أثقل من المعتاد، فابتسم؛ هذا العفريت الصغير ينمو بسرعة فعلًا، أشار بإصبعه الرفيع إلي الساعة الرملية وهو يهمهم، كان انسيال الرمل قد توقف، ما يعني أنها يجب أن تُقلبْ علي وضعها الآخر. أجلس الصغير علي حافة البوفيه وقلبها، وبدأت الساعة في حساب اثنتي عشرة ساعة جديدة.
صفق الصغير مهللًا عندما بدأ خيط الرمال في التدفق مرة أخري.
فكر في أن الساعة بالفعل لا تحسب سوي يوم واحد، لكنه يوم كان له أن يساوي الأزل والأبد في آن.
وانتبه من النوم مفزوعًا علي حلم غريب. كان ممددًا علي الكنبة، والصغير نائمًا ومستكينًا في حضنه. رأي نفسه في الحلم كأنه يسبح في بحر عاصف من الرمل، وكانت الرمال تحوطه من كل جانب. وعلي البعد رأي أباه يضرب بذراعيه في الأمواج الرملية محاولًا النجاة من الغرق، كان أبوه يناديه باسمه، وكان هو يجدف بذراعيه كي يصل إليه دون فائدة. كلما اقترب منه ابتعدَ أكثر. بدا له أن أباه غارق لا محالة، وأن لا أمل في النجاة. كان الرمل يبتلع جسده شيئًا فشيئًا، ومع هذا لم يتوقف للحظة عن النداء باسمه، ولم تتوقف ذراعاه عن الضرب بيأس في بحر الرمل المتلاطم.
تلويحة للنسيان
لعلَّ وقفته أمام باب الشقة كانت لتطول للأبد لو لم ينطق بكلمة. استقبلته في المدخل بابتسامة متسائلة، تسد بجسمها فرجة الباب الضيقة، صامتة، في انتظاره أن يتحدث:
"مساء الخير"
"مساء النور"
"ممكن أدخل؟"
اعتذرت في حرج وأفسحت له الطريق. صار يتوقع أُمورًا كهذه فلم يرتبك. فقط، وضع حقيبته بجوار الباب، وجلس علي أقرب مقاعد الصالون منه، لم ينحن حتي ليخلع حذاءه كما اعتاد فور دخوله.
"حضرتك؟"
"اه... أنا اسمي خالد"
ضغط علي مخارج الحروف كأنه يؤكد الاسم، يحفره في صخر صلد أو يكتبه علي صفحة مياه بلورية شفافة.
"أهلًا وسهلًا، وأنا نوال". ثم جلست في صمت
تحدق في زهرية الورد علي المنضدة بينهما بنظرة خاوية، فيما يتفحصها بطريقةٍ جاهد لتبدو طبيعية. لشدَّ ما تغيرت ملامحها؛ صارت أصفي وأرق، وإن أكثر شرودًا. اندهش؛ كيف لم يلحظ هذا سوي الآن.
تنفتح صالة الشقة من ناحية علي ممر ضيق يصل إلي المطبخ والحمام وغرف النوم الداخلية، ومن الناحية الأخري علي غرفة السفرة بكراسيها.
رفعت رأسها نحوه وسألته:
"حضرتك م الضيوف، مش كده"
"انتي مستنيه ضيوف النهارده"
"آه، ضيوف ع العشا، بس لسه ماحدش جه، حضرتك بس"
" أكيد حاجة منعتهم، الشوارع زحمه شويه أصلها"
نظر إلي ثيابها، ترتدي فستانًا من الكتان الأزرق، وشالاً مشغولاً بزهور دقيقة وردية اللون يحيط بكتفيها في رقة. فكر في أنها ربما تنتظر ضيوفًا بالفعل. لا يهم إن كانت تنتظر أحدًا أم لا، فهو يحب هذا الفستان عليها، دائمًا ما يُظهرْ جمالها بصورة أنيقة. وهي لم تعد ترتدي فساتين كهذه إلا نادرًا. شعر برغبة في التدخين، لكنه آثر عدم إشعال سيجارة. يعرف أنها تكره رائحتها، وهو لن يجازف بتعكير صفوها الآن.
"الجو أحسن النهارده، الحر ابتدي يفك شويه"
"آه فعلًا، اليومين اللي فاتوا كان صعب أوي، بس النهارده أحسن"
ثم نهضت واقفة وسألته:
"أنا هاعمل فنجان قهوه، تشرب فنجان معايا ولا تحب عصير؟"
"لأ خلاص ماشي"
"ماشي إيه؟ قهوه ولا عصير؟"
ارتبك لوهلة، ولكنه أجاب:
"قهوه، مظبوط"
استأذنت في أدب، واتجهت إلي المطبخ.
وحيدًا يجلس في الصالة. يدور بعينيه علي كل شيء كأنه يراه للمرة الأولي، نظر إلي غرفة السفرة واختلس نظرة إلي عمق الشقة حيث ذهبتْ. لاحظ أنها أعادت ترتيب بعض الأشياء، وضعت بعض المزهريات علي البوفيه وأعادت ترتيب كراسي السفرة، فيما يذكر كانت هذه الكراسي موزَّعة بين المائدة والبلكونة، أربعة للسفرة واثنان للبلكونة. الآن تحيط الكراسي الست بالمائدة. نظر بطرف عينه فلمح صورة الزفاف التي تجمعهما معاً، معلَّقة علي حائط الممر الواصل إلي الداخل، إلي جوارها صورة لها تحمل طفلا رضيعًا، ثم صورة أُخري للطفل وقد صار أكبر قليلًا، وإن كانت موشاة بشريطٍ أسود مائل علي إحدي زوايا بروازها الخشبي.
تعجب كيف يمكن لمرور بضع ساعات أن تبدّل من إحساسه نحو مكان ما، أن تُشعره بالغربة تجاه هذا المكان رغم القرب والعادة.
رجعتْ من المطبخ تحمل صينية مستديرة، يرقد فوقها فنجانا قهوة في طبقيهما الصغيرين، وجوارهما زجاجة مياه صغيرة وكوب من الزجاج. وضعت الصينية بينهما علي المنضدة وجلست. التقط فنجانه قائلًا:
"تسلم إيدك"
"العفو.. علي إيه بس؟". والتقطت فنجانها هي الأخري
رشف عدة رشفات سريعة من الفنجان، ثم وضعه علي المنضدة.
قالت دون مقدمات:
"أنا طابخه النهارده عشا عظيم علي فكره."
"بجد؟. إنتي ما طبختيش من زمان."
"فعلًا؟"
ثم هزت كتفيها:
"يمكن"
"وطبختي إيه بقي؟"
"عملت مكرونة اسباجيتي ومعاها فراخ بالبرتقان. شوفت طريقتها ف التليفزيون النهارده"
"بس الضيوف ماجوش لحد دلوقتي عشان ياكلوها"
ردت بابتسامة:
"هما اللي خسرانين بقي"
يفكر أحيانًا أن ثمة حاجزًا غير مرئي يفصل بينهما، غلالة حريرية خفيفة، شفافة لا تُري، لكنه يستشعر وطأة خفّتها هناك، جاثمة بينهما، هو في هذا الجانب يتفرج علي ما يحدث، دون تدخل أو حتي قدرة عليه، وهي علي الجانب الآخر، تتسكع في أنفاق ذاكرتها بلا هدف
ما شكل الذاكرة يا تري؟ كيف يسعه أن يتخيلها؟ أرففٌ في مكتبة، تحوي كتبًا مصنَّفة حسب التواريخ ودرجة الأهمية. أو ربما متاهة معقدة من ممراتٍ تفضي إلي بعضها البعض، تحمل جدرانها صورًا وقصاصات معلَّقة لما نثبّته من لحظات حياتنا؟.
"تحب أقولك الوصفة بتاعتها؟"
ابتسم وقال متحمسًا:
"يا ريت"
"الطريقة سهلة علي فكرة، بص يا سيدي...."
وبدأت تصف له الخطوات؛ أولًا، المقادير: فراخ قطع، معلقتين دقيق واتنين زيت زيتون، كوباية عصير برتقان، معلقتين صويا صوص واتنين كورن فلاور وزيهم زعتر مطحون وريحان.
"والطريقه؟"
سهلة جدًا يا خالد، نوال تقولك. تحمِّر الفراخ ف الزيت بعد ما تحطها ف الدقيق. تحط العصير ع الصويا صوص وتقلِّب الكورن فلاور ف شوية ميه وتضيفهم. بعد كده الزعتر والريحان، وتغطي كل حاجه ع النار عشان الفراخ تتشرب الطعم، وكل شويه هتزوِّد ميه لحد ما يستوي، بس.
"إيه رأيك؟. سهله، مش كده؟"
للحظة شعر برغبة في أن يمدَّ يده نحوها، تخترق اليد غلالة الهواء بينهما وتلمسها. وقد يلمس وجودها ذاته فيتأكد من حقيقته. لكنه عدل عن الفكرة. حافظ علي ابتسامته الهادئة واحتمي بها.
نظرت في وجهه كأنها تذكرتْ شيئًا، ثم سألته:
"إنت بتفهم ف الأحلام؟ أصلي حلمت حلم غريب شويه"
"حلمتي بإيه؟"
"هتعرف تفسره؟"
"هاحاول"
ابتسمت ابتسامة خاطفة، ثم اعتدلت في جلستها وبدأت تحكي:
"حلمت إني ماشيه لوحدي ف شارع فاضي، والشارع مافيهوش حاجه خالص، لا عربيات ولا عمارات ولا أي حاجه. ما فيش غير صفوف شجر ع الناحيتين، وواضح إننا كنّا في الخريف لأن ورق الشجر كان دبلان وعمال يقع. وأنا كنت ماشيه ألمّ الورق الدبلان ده ف شنطه قماش معايا. ولما وصلت لأخر الطريق لقيت نفسي واقفة قدام حافة جبل، الشارع كله ورايا وقدامي فراغ وجاهزه أنط، رميت كل الورق الدبلان اللي معايا لحد ما خلص، وبعدين نطيت وراه"
ارتعش، وسألها:
"ياااه، وحصل إيه؟"
"ولا حاجة، قبل ما اوصل لتحت صحيت م النوم"
حاول السيطرة علي انفعاله. رفع فنجان القهوة إلي فمه، ورشف ما تبقي منه دفعة واحدة. وفكر للحظة، ربما ليست الذاكرة -في النهاية- سوي شجرة تطل علي طريقٍ خالٍ، تتساقط أوراقها تباعًا بفعل الريح.
فتحت فمها قليلًا وظهر علي وجهها النعاس. شعر بالحرج بعض الشيء، ربما كان حرجاً صار له ما يبرره. أعاد الفنجان إلي مكانه ونهض واقفًا:
"أنا هاستأذن"
"لسه بدري"
"معلش كده أحسن"
نهضت في تسليم وقادته إلي الباب، كان يصافحها بينما تمسك بالباب، وقالت في نبرة مجاملة:
"هتزورنا تاني مش كده؟"
"آه أكيد طبعًا. تصبحي علي خير"
"وانت من أهله"
كانت تلوّح له مودِّعة بينما يهبط السلم، لم تستغرق تلويحتها أكثر من ثوان معدودة لكنها استمرت معه وهو يهبط. قدَّر أن الأمر يحتاج إلي نصف ساعة حتي تغرق تمامًا في النوم، وهي مدة كافية كي يدخن سيجارتين أو ثلاثاً، ثم يتسلل عائدًا وينسَّل جوارها. كان يمنّي نفسه بدفء الفراش الوثير، بينما يشعل سيجارته الأُولي.
الكاتب وخواؤه
إن يدي ترتعش وأنا أكتُب هذه القصة.
حدث هذا لصديقٍ يعمل بالكتابة والأدب، أصدر روايتين وعدة مجموعات قصصية حظيت بتقدير، وحصل بعضها بالفعل علي جوائز أدبية مرموقة. حكي لي هذا الصديق حكايته في جلسة علي أحد المقاهي، ثم طلب مني أن أحتفظ بها لنفسي ولا أُفشيها لأحد، ووعدته بالفعل، إلا أنني -كالعادة- لم ألتزم بوعدي. وقررت كتابتها، وضمَّها إلي مجموعتي القصصية الأولي.
وضع القهوجي الشيشة التي طلبتُها، ورصَّ المشاريب علي الطاولة أمامنا، ثم ذهب. وبدأ الصديق في سرد حكايته.
في أحد الأيام تلقي صديقي رسالة بريدية لم يُثبَتْ عليها اسم راسلها. رسالة مجهولة المصدر، كُتبت علي ورق أبيض مصقول وغُلِّفتْ في مظروف أصفر لم يُدونْ عليه أي عناوين، فقط عبارة واحدة بخط منمنم: "عناية الكاتب الأستاذ فلان الفلاني". واعذروني، فلن أستطيع ذكر اسمه لاعتبارات الصداقة.
من بين كل الرسائل التي يتلقاها من قراء شغوفين بما يكتبه، بل وأحيانًا من قارئات شغوفات به هو نفسه، لا بما يكتبه فقط، أثارت هذه الرسالة فضوله بشدة. منذ فترة وهو يلاحظ تناقص عدد الخطابات الورقية، لصالح زيادة ملحوظة في عدد الرسائل الإلكترونية والإيميلات، حتي صار لا يتلقي سوي الرسائل الإلكترونية فقط. لم يعد أحد يراسله بخطابات ورقية، وكان قد اعتاد علي هذا.
تعجب صديقي قليلًا؛ كيف وصلت هذه الرسالة البريدية، التي لا تحمل عنوانًا، إلي هدفها بهذه الدقة. في الغالب وضعها المرسل بنفسه في الصندوق البريدي المخصص للكاتب "فلان الفلاني" بمدخل العمارة التي يسكنها. لو صح هذا فلا بد أن المرسل هو شخصٌ يعرفه جيدًا، وإلا كيف توصل إلي عنوانه. فكر قليلًا؛ نعم، هذا منطقي، بما أن المظروف أيضًا لم يكن عليه أية طوابع بريدية من أي نوع.
فضَّ المظروف الغامض ذا اللون الأصفر، وفتح الرسالة كي يقرأها. في البداية لم يستوعب، ثم ظن أن الأمر مجرد مزحة ثقيلة من أحدهم، ثم فهم أخيرًا، ومن ثم جاءت الصدمة. كانت الرسالة مُرسلة إليه من الشخصية الرئيسية في محاولته الروائية الأولي، غير المكتملة.
بدا الأمر لصديقي مضحكًا قليلًا، إذ أن الشخصية الروائية كانت تذكّره بنفسها، في ما يشبه نداء استغاثة، بعد أن تركها مهملة لزمن طويل، تحت ركام من مخطوطات وأوراق قديمة يحتفظ بها، في الغياهب المنسيّة لدرج مكتبه.
أخرج صديقي مخطوطة الرواية وقرأ آخر صفحة منه كي يذكّر نفسه، كانت هذه رواية حاول كتابتها في شبابه ولم يتمها، وبالطبع لم يعد يذكر منها شيئًا. بدأ في القراءة، وشيئًا فشيئًا بدأت تتكشف له الوضعية الغريبة الذي ترك بطل روايته عليها؛ راكعًا علي قدميه، في تضرع مرتجف، بينما تلتصق فوهة باردة لمسدس جاهز للإطلاق بجانب رأسه، وعينيه مغمضتين في انتظار المصير الحاسم. أغلق صديقي المخطوط وعاد إلي قراءة الرسالة التي أرسلها إليه بطله المنسي، والتي كانت الفقرة الثانية منها تقول:
"ما زلت أذكر للآن وجهك وهو يتصبب عرقًا، بعد أن وضعتني في هذا الموقف المعقد، ولم تعرف كيف تخرجني منه. كنت تكتب وتكتب وتكتب، ثم تمزق ما كتبته وتكوّره ملقيًا به في سلة القمامة. ومع كل محاولة جديدة كان ثمة أمل جديد في النجاة، ما يلبث أن ينهيه فقر خيالك وعجزك عن ابتكار حل درامي مناسب ينقذني, وإياك من الكارثة الجالسة في ترقب علي فوهة المسدس. وكثيرًا ما كنتُ أفكر، اذا كنت لا تستطيع إنزالي من فوق شجرة الموت هذه بأمان، فلماذا صعدت بي فوقها من الأساس؟"
سحبت نفسًا من الشيشة، ونفثته في هدوء. سألتُ صديقي لماذا كان يكتب علي الورق أصلًا؟ معظم أصدقائنا يكتبون علي الكومبيوتر مباشرة، دون الحاجة إلي فوضي الأوراق المبعثرة والأصابع الملوثة بالحبر. أجابني أنه لم يكن يثق في تلك الأجهزة وقتها. كان يفضل تدوين نصوصه علي الورق أولًا، ثم إعادة كتابتها وتنقيحها علي الكومبيوتر بعد ذلك. أجبته أن هذا ليس مبررًا لأن يتخلي عن شخصياته بهذا الشكل، وفي أكثر لحظة يحتاجون فيها إليه، لحظة النهاية. ضحك من الفكرة، ثم طلب مني الكف عن التهريج، كي يكمل الحكاية.
لم يكن صديقي يعرف أن الشخصيات الأدبية يمكنها أن تبعث برسائل كهذه إلي المؤلفين. سأل نفسه هل هذا ممكن؟ ثم ارتعب قليلًا، وتذكر حالته عندما كان عاجزًا عن المضي في الكتابة. جرب كل طرق علاج العجز عن الكتابة التي يعرفها ولم تنفع. فقرر التوقف عن الكتابة فيها والانصراف إلي موضوع آخر. ذكَّره هذا بالمشهد التقليدي في السينما للمؤلف الجالس بين أكوام من الورق الممزق، يشعر بخواء ما يكتبه وخواء مخيلته في آن. فقام بتنحية القصة جانبًا. رسم دائرة بيضاء فارغة، وجلس في مركزها الهادئ. حرر نفسه من الارتباط بالرواية التي يكتبها، ثم خرج وقضي الليلة مع أصدقائه في أحد البارات. جرع عدة زجاجات من البيرة الساقعة وعاد مترنحًا إلي البيت. استيقظ في الصباح التالي مع صداع خفيف، ونسي تمامًا عار روايته غير المكتملة.
قلتُ له لا بُد أن الموقف كان أكثر تعقيدًا بالنسبة للشخصية؛ ففي اللحظة التي وأد هو فيها عاره في المهد، ولد عار شخصيته الروائية إلي العالم هائلًا، ضخمًا. وبينما كانت الشخصية الروائية ترزح بين ثقل وجودها الواهي المثبتْ بجرة قلم من جانب، وخفة فنائها المنتظر بجرة قلم أُخري من جانب، أو بين مطرقة الوجود وسندان الفناء، كان هو يتكئ بفجاجة علي ذاته المطمئنة، المنتشية بالخمر. هزَّ صديقي رأسه ولم يعلق علي ما قلت باعتباره رطانة مثقفين فارغة. وحاولتُ أنا تخيُّل ما مرت به هذه الشخصية المسكينة، مُستحقة العطف، قبل أن تبعث برسالتها البائسة تلك، والتي أنهتّها برجاءٍ مبلل بالدموع للصديق الكاتب كي يعود إلي العمل علي روايته من جديد، وينهي عذابها مرة واحدة وللأبد، بأية طريقة ممكنة، حتي وإن لم تكن مقبولة علي المستوي الدرامي. أي يأس هذا قد يدفع أحدنا إلي القبول بحلول ضعيفة دراميًا.
طوي صديقي الرسالة في صمت، ووضعها- مع المخطوط الناقص- في درج مكتبه.
علي مدي الأُسبوع التالي ستحدث أشياءً كثيرة؛ سينقطع صديقي عن الجميع ويغلق علي نفسه باب غرفة مكتبه من الداخل بالمفتاح، لن يُشاهده أحد خارج هذه الغرفة سوي في حالات معدودة، عندما يذهب إلي الحمام مثلًا، أو وهو يبحث في المطبخ عن شيء يصلح للأكل، أو عندما يخرج لشراء علبة سجائر وبعض علب البيرة ثم يعود من جديد لغرفته المغلقة. وستصدر من هذه الغرفة أعجب الأصوات لليال. أصوات بكاء وصراخ ملتاع أحيانًا، أو أصوات ضحكات مجلجلة وشتائم مقذعة أحيانًا أُخري. وسيصير شكله غريبًا تمامًا علي من يعرفون عنايته واهتمامه الشديدين بمظهره. سيترك لحيته حتي تنمو وتستطيل، وسيهمل نظافته الشخصية حتي تفوح رائحته وتتسخ ملابسه تمامًا. وستستمر الخطابات غير المعنّونة طيلة هذا الأسبوع. سيتفحصها الصديق الكاتب بعين سريعة في كل مرة، ثم يضعها مع مثيلاتها في الدرج. لم تفزعه الخطابات التالية كما حدث مع الخطاب الأول. كانت تتراوح صياغاتها -كالخطاب الأول- بين التهديد الغاضب المنفلت أحيانًا، والرجاء من أجل نهاية. وفي اليوم السابع سيخرج من غرفته المغلقة. تعلو وجهه ابتسامة نصر ظاهرة، تنطوي في باطنها علي نذير شؤم خفي.
لم أحاول سؤاله عن معني عبارته الأخيرة هذه "نذير شؤم خفي". فضلّت الانتظار حتي يبيّن معناها بنفسه.
دخل إلي الحمام، حلق لحيته واستحم. ارتدي ثيابًا نظيفة ومعطفًا يقيه البرد، ثم خرج إلي المكتبة التي يتعامل معها دائمًا. نسيت أن أقول أن لدي صديقي هذا ولعًا غريبًا بالدفاتر والأقلام. اشتري كالعادة أوراقًا ودفاترْ، وقلمًا جديدًا من نوعية خاصة، لا يشبه أيا من أقلامه القديمة. له سن رفيع حاد وخط أحمر زاه.
سيقول بعض الأصدقاء من أصحاب النزعات الساخرة، إذا ما عرفوا الحكاية، أن صديقنا الكاتب، عندما اختار هذا القلم، كان يبحث عن معادل موضوعي لأداة الطعن أو المطواة. سن القلم الحاد الرفيع كمعادل لطرف مهماز المطواة، والحبر الأحمر كمعادل لدم الضحية المُهدرْ. ورأيي أن تفسيرات كهذه، والتي تحاول دائمًا أن تُضفي معان عميقة علي كل الأشياء التافهة، تنزع عن قوانين الصدفة كل جمالها في آن. هذا القوانين التي اختارت لسن القلم حدته ورهافته، وللحبر لونه الأحمر الموحي بالسفك. هكذا. دون أي محاولة من طرف صديقي لإضفاء تأويل معين علي اختياره، والذي تم لمجرد أن شكل القلم وخطه الرفيع المنتظم قد أعجباه.
وضع كيس المشتريات علي المكتب، خلع معطفه وعلّقه خلف الباب، أخرج مخطوطة روايته الناقصة من الدرج، ثم أغلق الباب وراءه.
لم أعرف تحديدًا ما حدث خلف هذا الباب المغلق. لذا لن أستطيع سرده لكم بالتفصيل. لم يفصح صديقي عما حدث كله، أو ربما أفصح ولكني لم أرد أن أفهم. فقط أخبرني أنه أضاف جملة واحدة لمخطوط روايته، رآها كفيلة بإنهاء الأمر برمته، جملة واحدة لها وقع رصاصة الرحمة. فقط سأصف لكم صرير باب الغرفة وهو يُفتح بليلٍ، بعد أن نام الجميع. وسترون كاتبنا وهو يخرج حاملًا ملاءة بيضاء ملفوفة علي شيء غامض في حجم رزمة من الورق. سترونه وهو يتسلل علي أطراف أصابعه ويفتح باب الشقة، ثم يهبط سلالم البيت بحذر، سيركب سيارته ويضع الملاءة الملفوفة علي المقعد الخلفي، ثم يدير المحرك وينطلق إلي وجهة محددة اختارها بعناية, نقطة مجهولة في مكان ما علي الطريق الصحراوي. سيركن سيارته علي جانب من الطريق ويطفئ أنوارها، يهبط من السيارة، يشمر ساعديه ويخرج جاروفًا من شنطة السيارة ويبدأ في الحفر، يرتفع منسوب التراب حول الحفرة. وينتهي كاتبنا من الحفر لعمق مناسب فيلقي بالجاروف جانبًا ويعود إلي السيارة، يخرج الملاءة البيضاء الملفوفة، تلك التي تلوث بياضها الآن ببقعة حمراء قانية أخذت تتسع شيئًا فشيئًا، ويلقيها في عمق الحفرة المظلم، ثم يهيل التراب عليها. عندما وصل صديقي لهذه النقطة من حكايته، كنتُ أري عاره أمام عيني وكأنه يُشرق من جديد، مع كل زخة تراب يلقيها في الحفرة، ككاتب لوث يده بدم شخصياته الأدبية، وأظن أن هذا العار سيلاحقه للأبد.
أنهي الصديق قصته، ثم انخرط في نهنهة مكتومة.
كان حجر الشيشة قد احترق تمامًا، أشرت للقهوجي بإحضار حجر آخر جديد. بينما يحاول صديقي تمالك نفسه بصعوبة. لم أعره انتباهي أثناءها، وللحظة تخيّلتُ مئات الحيوات المبتورة، ترقد في مئات الروايات الناقصة، غير المكتملة، وشعرت برجفةٍ باردة شملت كل جسمي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.