ليس للحقيقة وجه واحد.. وليس كل ما يلمع ذهباً.. وليس كل ما يقال صواباً قاطعاً. هكذا علمتنا تجارب الحياة.. لذلك علينا دائماً أن ننظر إلي ما هو أبعد وأعمق من السطح.. ولا نكتفي بزاوية واحدة يراد لنا أن نبصر الأشياء من خلالها فقط.. لأننا إن فعلنا ذلك فسوف يكون علينا أن نعيش العمر كله تابعين.. وأن نلغي عقولنا تماماً.. والعقل هو أكبر نعمة منحها الخالق - جل شأنه - للانسان.. وهو مناط التكليف. لذلك.. عندما أصدر الدكتور الهلالي الشربيني وزير التربية والتعليم قرار الانضباط في المدارس لطلاب الثانوية العامة.. ومنح هؤلاء الطلاب عشر درجات للمواظبة وحسن السير والسلوك قوبل القرار بالرفض من الطلاب وأولياء أمورهم.. وهنا ثارت تساؤلات الدهشة: هل يعترض أحد علي الانضباط؟!.. ألا تريدون أن يلتزم المدرسون بالشرح في الفصول إلي آخر يوم في الدراسة حتي لا يكون الطلاب في حاجة إلي الدروس الخصوصية والسناتر التي تشتتهم وتستهلك وقتهم وتطلب أرقاما فلكية؟! والحقيقة أن لا أحد ضد الانضباط.. ولا أحد يريد الدروس الخصوصية.. لكن الأمر لا يعالج بهذه الطريقة.. وليس القرار الفوقي هو الذي سيجبر الطالب علي البقاء في المدرسة.. وهو الذي سيصلح من شأن المدرس ويوقظ ضميره لكي يؤدي واجبه إلي آخر يوم في الدراسة.. وهو الذي سيجعل مستواه في مستوي مدرس السنتر بين عشية وضحاها. ربما كان الواجب أولا أن يجتهد الوزير والأجهزة المعاونة معه في دراسة ظاهرة مدرسي السناتر ولماذا يتسابق الطلاب إليهم.. وكيف يتعامل هؤلاء مع طلابهم.. وكيف يقدمون لهم المادة العلمية.. فإذا كان هؤلاء هم القوة الجاذبة فإن علي الوزارة أن تتعلم منهم لكي تحول مدارسها إلي قوة جاذبة منافسة.. لا أن تحاربها وتحرم الطلاب منها. إذا كان لدينا نظام تعليمي ناجح ومشهود له بالكفاءة رغم ارتفاع أسعاره ولدينا نموذج تعليمي آخر فاشل وغير كفء.. فهل من المنطق أن يتم التضييق علي النموذج الناجح وتحاربه الوزارة أم تستفيد وتتعلم منه حتي تجعل مدارسها جاذبة ومفيدة للطلاب.. وساعتها هم - الطلاب - الذين سيقررون البقاء ويرتبطون بالمدرسين ويقاطعون الدروس الخصوصية والسناتر ويوفرون أموالهم.. إذا وجدوا ما يبحثون عنه متوفرا في مدرستهم ومدرسيهم. لقد تجاهل وزير التربية والتعليم بقراره الفوقي ضعف امكانيات معظم المدارس ومعظم المدرسين.. ولم ينبهه أحد أن قراره هذا فيه مضيعة لوقت الطلاب في الأوقات الحرجة جداً.. وأنه بذلك وضع أبناءه الذي هو مسئول عنهم أمام الله وأمام المجتمع بين المطرقة والسندان.. إن تعجلوا بالخروج من المدرسة عوقبوا بخصم الدرجات وإن حافظوا علي الحضور ضاع وقتهم فيما لا يفيد. وكثيرا ما جربنا العلاج بالقرارات الفوقية من قبل وفشلنا.. ولكن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه السيد الوزير هو أن يتم التجريب هذه المرة مع طلاب الثانوية العامة التي هي أخطر سنوات الدراسة وأكثرها حساسية.. هكذا جعلها نظامنا التعليمي العقيم.. ويا ليته بدأ التجربة بالمدارس الإعدادية وبالسنتين الأولي والثانية في الثانوية حتي إذا وصل الطالب إلي السنة الثالثة تكون التجربة قد نضجت وأتت ثمارها وصححت أخطاءها واعتاد عليها المدرس والطالب معا. القضية إذن ليست قضية انضباط.. وإنما مشكلة مزمنة يحتاج علاجها إلي "كونسولتو" من الخبراء والمتخصصين الشجعان وليس إلي مجرد قرار فوقي لن يؤدي إلا إلي مزيد من التشتت والغضب.