فى مثل هذا اليوم أوقبله اوبعده بيوم أو يومين منذ ما يزيد على خمسين عاما كان الرئيس جمال عبد الناصر يخطب فى الجماهير بمناسبة عيد ثورة يوليو وكانت المفاجأة التى فجرها هى إعلانه مجانية التعليم فى إطار القرارات الإشتراكية وهاجت الجماهير وغلبها الحماس، بينما كان يجلس وراءه على المنصة رجل راح فى تفكير عميق يسال نفسه عن كيفية تدبير الأموال لتغطية نفقات التعليم وتعويض نقص موارد الدولة التى كانت تأتيها من رسوم التعليم، هذا الرجل كان الراحل الدكتور القيسونى الذى كان يشغل منصبا اقتصاديا رفيعا فى الحكومة. بدأت رحلة مجانية التعليم فى شعب تعداده عشرون مليونا وزمن كانت المدارس والجامعات بخيرها، وإمكاناتهاوالمدرسون واعضاء هيئات التدريس بالجامعات على أعلى مستوى وكانت كلمة الدروس الخصوصية مشينة ومستهجنة من المجتمع ولها دلالة سيئة على المدرس الخصوصى والتلميذ الذى يتلقاه وبالتالى كانت النتيجة مخرجات قوية من التعليم معترف بها فى أعظم جامعات العالم كما كانت الدول العربية فى بداية نهضتها تتهافت على الخريج المصرى وترسل ابناءها للتعليم فى مصر فى كل المراحل ثم ترهلت العملية التعليمية وفسدت. أصبحت مجانية التعليم نصا دستوريا غير قابل للمناقشة ولم يسأل أحد عن جودة هذا التعليم المجانى وهميا، وماذا يقدم للبلاد والعباد سوى البلاء فلا هو تعليم ولاهو مجاني، وكما هو فى مصر أصبح هناك نظامان، واحد حكومى وإلى جواره نظام اعتلاه تجار الفرص فهناك التعليم الحكومى من ناحية والسناتر كما يقولون أو المراكز التعليمية من ناحية أخرى بل هجر التلاميذ المدارس الحكومية التى أصبحت مجرد مبان بلا أى معنى وها هو أحد أوائل الثانوية العامة هذا العام يقولها بصراحة لمرة واحدة وتقول إحدى أوائل الثانوية العامة قسم علمى اعتمدت على الدروس الخصوصية نحن إذن كما نرى أمام منظومة تعليم متدهورة ومتهالكة عفا عليها الزمان. منذ سنوات بعيدة وتتحمل الدولة مليارات سنويا للإنفاق على التعليم تذهب هباء بغير أى عائد. بالأرقام لدى مصر فى التعليم قبل الجامعى 20 مليون تلميذ سوف يحتاجون بعد نحو عشرة أعوام نحو عشرين فرصة عمل بالإضافة إلى ما يزيد على مليون ونصف المليون تلميذ فى المعاهد الأزهرية ولدينا مليون وربع مليون مدرس و87% من المدارس حكومية أما عن الجامعات فينتمى إليها ثلاثة ملايين طالب نصفهم بالجامعات الحكومية وعددها 19 جامعة والأزهر والباقى فى 18جامعة خاصة و45 كلية تكنولوجية و3 اكاديميات و122 معهدا عاليا خاصا ومعاهد أخري. أما عن الإنفاق على التعليم فيتفرع إلى أربعة مسارات أولها إنفاق الدولة من ميزانيتها على التعليم العام أو الحكومى وزاد من 28 مليار جنيه فى عام 2006 - 2007 إلى 54 مليارا فى 2011 2012 والسؤال هل هناك عائد من هذا الإنفاق وإذا كان يعد استثمارا فى البشر فهل تحقق بالفعل ؟ وإذا كان هذا هو الإنفاق فما هى إيرادات وزارتى التعليم من الرسوم الدراسية حتى نستطيع حساب التكلفة الفعلية او الخسائر التى تتحملها الدولة فى العملية التعليمية ونخضعها للتحليل الاقتصادى السليم الذى يربط بين التكلفة والعائد علما بأن العائد فى هذه الحالة ليس ماديا ولكنه عائد على المجتمع والتحولات فيه إما إلى التقدم وإما إلى التخلف ، وما هى قيمة الرسوم الدراسية السنوية التى يدفعها الطالب، أما المسار الثانى للإنفاق على التعليم فهو مصروفات المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية التى تعمل وتمرح فى البلاد وفق قاعدة السداح مداح مع ضعف الرقابة عليها ويخضع أولياء امورطلابها لما يماثل عقود الإذعان فيما يتعلق بالمصروفات الدراسية حيث تفرضها كما يحلو لها الخاصة. وتمثل الدروس الخصوصية المسار الثالث للإنفاق على التعليم وهى تعطى صورة واضحة لما آل إليه نظام التعليم فى مصر فلا تعليم دون الدخول فى قبضة الدروس الخصوصية والتى أصبح الجميع فريسة لها ونحن نرى مثلا أبناء الفقراء يجلسون إلى مدرسهم الخصوصى ولو حتى على الأرض فلا يملكون ترف ترابيزة وكراسى إذن اى تعليم هذا الذى سلم التلاميذ على طبق من الفضة إلى المدرسين الخصوصيين الذين لا يقومون بعملهم فى مدارسهم واحترفوا الدروس الخصوصية ثم يطالبون بكادر خاص ، وأى تعليم هذا وأى مجانية نتحدث عنها. ويقدر حجم الدروس الخصوصية فى مصر بنحو 18 مليار جنيه خارج نطاق الضرائب. أما المسار الرابع للإنفاق الفاشل على التعليم فهو كما يقولون «السناتر» وهى جمع كلمة سنتر باللغة الإنجليزية أى مركز وتعود قصة المراكز التعليمية إلى نحو عام 1993 حين ظهرت وبرزت كنظام تعليمى غير رسمى إلى جانب النظام التعليمى الرسمى وهى عبارة عن مكان مثل شقة يستاجرها بعض المدرسين المحترفين لإعطاء دروس خصوصية بها لمجموعات وموجات متتالية من التلاميذ والتلميذات معا يوصلهم أهاليهم إلى تلك السناتر وينتظرونهم بالشوارع إلى حين الانتهاء مما أوجد زحاما حولها. إذن مصر أمام مأساة تعليمية تهدد حاضرها ومستقبلها والعملية التعليمية تحتاج إلى النسف ثم البناء بعد كل التخريب الذى حدث لها ويقدر حجم التمويل اللازم لها بنحو مائة مليار جنيه لا قبل لنا بها فى الوقت الحاضر رغم أهمية القضية ولهذا لابد من مواجهة شجاعة كمواجهة الدعم، هل نحن بعد كل هذا مقتنعون بأن هناك مجانية للتعليم؟ وما معنى المجانية بينما التلميذ يدفع آلافا على التعليم الموازى فى السناتر والدروس الخصوصية ؟ ما الذى يمنع من زيادة المصروفات الدراسية إلى الحدود الممكنة للدخل وبشرط أن تكون هناك مدرسة جيدة ومدرس يقوم بالتدريس فى الفصل ومنهج متطور حديث ومنع للسناتر والدروس الخصوصية بجد. إعتقادى ان عبد الناصر لو كان بيننا اليوم لكان قد بادر بتعديل وتغيير المجانية لتكون لمصلحة البلاد والعباد وليس نقمة عليهما فالإصلاح حتمى مهما تكن المقاومة. لمزيد من مقالات عصام رفعت