سبحان مغيّر الأحوال.. الدروس الخصوصية التى كانت أقرب لتجارة المخدرات، وتتم فى الخفاء.. أصبحت مدعاة للفخر بين الطلاب، ويتسابق المعلمون الآن من كل التخصصات على وضع إعلاناتهم على جدران المدارس وفى الشوارع دون رادع. وفى غفلة من القانون.. والضمير.. غاب الشرح عن الفصول الدراسية.. ووضع المعلمون كل اهتمامهم وجهدهم فى مراكز الدروس الخصوصية المعروفة ب «السناتر» والتى أصبحت تلتهم ميزانية الأسرة المصرية كبديل مدفوع مقدمًا للمدارس التى كانت الدراسة بها «مجانية»..! «أكتوبر» دخلت أحد أشهر المراكز التى تطلق على نفسها صفة «التعليمية» الموجودة فى حى الهرم والتى عليها إقبال كبير من طلاب الثانوية العامة فلاحظنا أن المركز أو «السنتر» عبارة عن مبنى مكون من خمسة طوابق الأول عبارة عن صالة كبيرة مفروشة بالسجاد يوجد بها مكتب استقبال كبير يقف خلفه ثلاثة من العاملين فى السنتر حيث يقوم الطلاب بحجز الحصص والاستعلام عن مواعيد الدروس ومواعيد حضور المدرسين. ووجدنا أيضا فى هذا الطابق مقهى لتقديم الشاى والقهوة والمشروبات الغازية والسندوتشات للطلاب الجالسين على المقاعد منتظرين ميعاد دخولهم للحصة. وعند صعودنا للطابق الثانى وجدناه يتكون من ثلاث قاعات القاعة الأولى وهى أكبر قاعة داخل السنتر وتتسع ل 300 طالب مكونة من مدرج كبير يشبه مدرجات الجامعة ونظام صوتى لتكبير الصوت، بالإضافة إلى شاشات العرض التى تنقل كل شئ يكتبه الأستاذ للطلاب وهذه القاعة مخصصة للمراجعات النهائية وللمدرسين الذين عليهم إقبال كبير، أما القاعة الثانية فكانت أقل حجم وهى مكونة من عدد كبير من الكراسى وشاشة عرض تنقل ما يكتبه المدرس على جهاز البروجكتور وهذه القاعة مخصصة للدروس اليومية أو للمدرسين الذين لديهم أعداد قليلة من الطلاب. وباقى الطوابق مقسمة أيضًا إلى قاعات للشرح، بالإضافة إلى وجود أفراد أمن فى كل طابق وذلك للحفاظ على النظام ومنع أى مشاغبات داخل القاعة والتأكد من عدم وجود طالب ليس معه كارت حجز الحصة وأفراد أمن آخرين أمام المبنى وذلك لمنع الطلاب من الوقوف أمام السنتر بعد انتهاء الحصة. ويضم الطابق الأول أيضا مكتب حجز واستلام الملازم والمذكرات والكتب الخاصة بكل مدرس والتى قام بإعدادها بنفسه وطبعها فى مطابع خاصة وعادة ما يضم الكتاب شرح كل فصل من فصول المادة ومجموعة من الامتحانات السابقة. الملاذ الوحيد التقينا مجموعة من الطلاب داخل السنتر.. يقول أيمن محمد وهو طالب فى الصف الثالث الثانوى إنه لم يذهب إلى المدرسة منذ بداية العام الدارسى إلا مرة واحدة واكتفى بحجز جميع المواد فى السنتر عدا المواد التى لا تضاف إلى المجموع وذلك لعدم أهميتها قبل بداية العام الدراسى بشهرين حتى يكون له مقعد مع المدرسين أصحاب الشهرة. ويرى أيمن أن السنتر أصبح الملاذ الوحيد له بدلا من المدرسة التى لم تعد تؤدى دورها التعليمى كما كان فى السنوات السابقة حيث يوفر له السنتر المواعيد المناسبة سواء صباحا أو مساء وأيضا إمكانية إعادة الحصة فى ميعاد آخر سواء له أو لجميع زملائه فى السنتر. وقال أيمن إنه اعتاد على الذهاب إلى الدروس من صغر سنه وأن هذه السناتر هى تطور للدروس المنزلية التى كان يحضرها فى البيت وهو فى المرحلة الإعدادية. وذكرت إيمان سعد وهى والدة أحد طلاب المرحلة الثانوية أنها تدفع شهريا 800 جنيه لمراكز الدروس الخصوصية وهذا عبء كبير عليها وعلى أسرتها، حيث إنها تضحى بنصف دخلها هى وزوجها وذلك لتوفير ثمن الحصة فى السنتر وباقى المرتب يدبره زوجها لمتطلبات المنزل فهى تحرم نفسها هى وأسرتها من أشياء كثيرة حتى توفر ثمن الحصص لابنها. وأضافت أنها لا تستطيع أن تمنع ابنها من الذهاب إلى «السنتر» الذى يأخذ كل وقته، حيث إنه من الممكن أن يأخذ ثلاث حصص متتالية فى يوم واحد وذلك أملا فى حصول ابنها على أعلى الدرجات حتى يلتحق بإحدى كليات القمة مثل الطب والهندسة ويكون له الحق فى الحصول على وظيفة محترمة. وتقول إيمان إنها لا تستطيع أن تدفع لابنها ثمن درس خصوصى مع عدد قليل من الطلاب لذلك تدفع له فى السنتر وبالمقارنة مع الدرس سيكون أقل بكثير، بالإضافة إلى أن هذه السناتر تستوعب أعدادا كبيرة ولا يستطيع منزلها الصغير تحمل مثل هذه الأعداد، ولكن فى المقابل أكدت إيمان أن السنتر يوفر لابنها الشرح الكافى الذى لم يجده فى المدرسة، بالإضافة الى المتابعة والامتحانات الدورية وإبلاغها عن مستوى ابنها والدرجات التى يحصل عليها أولًا بأول فى السنتر. أما الطالب مصطفى محمد فيؤكد أن كثيرًا من المدرسين داخل المدرسة لا يقومون بوظيفتهم حتى أنهم لا يحضرون الحصص من الأساس وإن حضروا يكون أداؤهم ضعيفًا، وذلك حتى يوفروا مجهودهم للدروس الخصوصية. وأضاف مصطفى أن السنتر يوفر له مجموعة من المدرسين المعروفين فى عالم التدريس والمعروفين أيضًا بنظامهم، حيث يكون لدى كل مدرس مجموعة من المساعدين الذين يقومون بتصحيح الأوراق بدلًا عنه نظرا لعدم وجود وقت لديه وعادة ما يكون المصححون خريجى كليات الهندسة وكليات الترجمة والعلوم والطب وهناك مجموعة أخرى من المساعدين وهم من يقومون بالمراقبة على الطلاب أثناء الامتحانات، بالإضافة إلى وجود مدير مكتب لدى كل مدرس للرد على التليفونات وسائق خاص لتوصيل المدرس إلى السناتر الأخرى. وعند سؤالى لأحد الطلاب عن أسعار الحصص فى السنتر قال محمد عبد الغفار أنه يدفع ثمن الحصة مقدما قبل دخول القاعة، حيث تصل سعر حصة الكيمياء إلى 50 جنيها وحصة الفيزياء 45 جنيها أما اللغة العربية فيصل سعر الحصة إلى 40 جنيها واللغات الأجنبية (اللغة الإنجليزية والفرنسية) فتصل سعر الحصة إلى 35 جنيها غير شاملة سعر الملازم والكتاب. الربح لا التعليم ولكن خبراء التربية والاجتماع لهم رأى آخر حيث أكد د. سيد صبحى أستاذ التربية بجامعة عين شمس أن هذه المشاريع ليس هدفها العملية التعليمية إطلاقا ولكن هدفها الأساسى هو الكسب المادى بغض النظر عن ما يقدمونه للطلبة. وأضاف د. سيد أنه ينبغى على كل مسئول فى العملية التعليمية أن يعيد النظر فى طرق التدريس، بالإضافة إلى توفير إدارة مدرسية محترمة ومناهج ومقررات مدروسة من قبل مختصين وتغيير شكل الامتحانات التى تعتمد على الحفظ والتلقين إلى امتحانات تعتمد على الفكر والفهم، حيث إننا منذ 25 عاما من كان يذهب إلى المدارس الخاصة الطالب الفاشل وكان أمرا بعيد التفكير فيه أما الآن أصبح الأمر مفخرة لمن يذهب إلى المدارس الخاصة ومعيبة لمن يذهب إلى المدارس الحكومية. وذكر أننا مجتمع يقسم الكليات إلى كليات قمة وقاع على الرغم أن التعليم لا يوجد له قاع فهذه الكليات النظرية مثل كليات التجارة والاقتصاد والزراعة هى الكليات التى يعتمد عليها الغرب فى تعظيم ثرواتهم فمصر دولة زراعية وعلى النقيض لا نهتم بكليات الزراعة. ومن جانبه يرى د. حسن أحمد حسن أستاذ متفرغ بالمركز القومى للامتحانات أنه لا يمكن مواجهة هذه الظاهرة فى الوقت الحالى وذلك لعدم استقرار مؤسسات الدولة فتجريم مثل هذه السناتر يحتاج إلى حكومة وأشخاص قادرين على تنفيذ أمر الحكومة أو الوزارة بغلق مثل هذه السناتر. وأكد حسن أن أعداد السناتر سيزداد أكثر فى الفترة القادمة، وذلك بسبب عدم وجود رقابة على المدرسة والمدرسين فالمدرس يذهب إلى المدرسة ليثبت حضوره فقط من خلال دفتر الحضور والانصراف وبعد ذلك يذهب الى السناتر التى يحصل فيها على أضعاف راتبه الذى يأخذه من التربية والتعليم. المتاجرة بالتعليم أما الطالب فيحاول الالتحاق بأى وسيلة للنجاح والحصول على أكبر الدرجات وهذا ما يوفره له السنتر من أفضل المدرسين المشهورين. وشددت د. بثينة أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية أننا نعانى من هذه الظاهرة فى النظام التعليمى منذ 20 عاما ولكن فى الفترة الحالية زاد إلى أقصى الحدود، وذلك لوجود معدومى الضمير الذين يتاجرون فى التعليم على حساب الطلاب وأولياء الأمور ويجنون شهريا منهم آلاف الجنيهات فنرى إعلاناتهم تملأ الجدران ومحطات المترو والمدارس والمطاعم فهى فى كل مكان وتطورت إعلاناتهم أيضا فبدأوا يوزعون اسطوانات عليها مواعيد الدروس وعلى الفيس بوك وعلى ملازم ورقية للكتابة. وقالت د. بثينة إن السنتر هو المدرسة البديلة، وذلك لأن المدرسة لا تقوم بدورها التعليمى والسبب فى ذلك ان التعليم لن يحدث له طفرة، حيث تحتاج المنظومة التعليمية إلى التغيير من الجذور والتوسع فى عدد المدارس حتى تكون هناك فصول تضم مثلا 20 طالبا، بالإضافة إلى الاهتمام بالمدرس وإكسابه المهارات الجديدة فلا يكون فقط ملقنًا للمعلومات ولكن لابد أيضًا أن يكون قدوة حسنة للطلاب فالتربية تسبق التعليم. ووصفت د. بثينة الأسرة بالمستنزفة، حيث إن الأسرة المصرية تدفع كل ما لديها لتعليم أولادها وذلك أملا فى دخولهم كلية من كليات القمة. وترى د. سامية خضر أستاذ الاجتماع أن الظاهرة بدأت بالدروس الخصوصية المنزلية حيث كانت الظاهرة تشمل الطلبة الذين يعانون من عدم الفهم وضعف المستوى أما الآن أصبحت الظاهرة مثل الموضة أولياء الأمور تفتخر بعدد الدروس التى يحصل عليها أولادهم فكلما زاد عدد المواد التى يحصل عليها الطالب مع المدرسين المشهورين كان ذلك بمثابة الأمان والتيقن بحجز مقعد فى الكليات المعروفة بكليات القمة. وترى د. سامية أن زرع ثقافة التدريس لدى المدرس ستكون من أهم الأسباب التى ستقضى على هذه الظاهرة فالمدرس يعانى من حاله قصور من الناحية التعليمة والثقافية وذلك عن طريق منحهم الكورسات والمنح التعليمة التى ستطور من مستواهم التعليمى والثقافى والأخلاقى فإذا كان المدرس ملتزما أخلاقيا فسيعلم تلاميذه القيم والأخلاق. وأكدت أن أولياء الأمور عليهم عبء كبير فمن الضرورى أن يكون لهم دور فعال فى تربيه الأولاد وتعليمهم من خلال حثهم على المذاكرة والصلاة وتعليمهم مهارات كثيرة مثل التعامل مع الآخرين بحكمة وأدب، بالإضافة إلى دعمهم من الناحية النفسية.