أخيراً.. سمعناها صيحة قوية مدوية من القضاء.. نطق بها المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجي رئيس محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية معلناً عدم قانونية تولي الأبناء لوظائف الآباء وعدم توريث الأبناء في وظائف آبائهم.. ومؤكداً أن توريث الوظائف جريمة جنائية لأنه أي التوريث يعني التمييز والحض علي الكراهية والعدوان علي العدالة الاجتماعية. وقالت المحكمة إن الدستور ألزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز.. والمواطنون لدي القانون سواء.. وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة.. لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوي الاجتماعي أو الانتماء السياسي أو الجغرافي.. أو لأي سبب آخر. وأضافت المحكمة أن الدستور جعل التمييز والحض علي الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون.. وألزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء علي جميع أشكال التمييز.. وعهد الدستور إلي القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض غلقاً للباب أمام أي فساد أو استبداد. وقد كان ضرورياً أن نسمع صوت القضاء في قضية توريث الوظائف التي شوهت المجتمع المصري وحولته إلي قبائل "وظيفية" متناحرة.. كل قبيلة تدافع عن مكاسبها وتذود عن حياضها.. وتختلق أوضاعاً غير قانونية أو دستورية لكي تنتقل امتيازات الآباء إلي الأبناء.. وهو ما يعني تلقائياً إلغاء مبادئ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية التي أقرها الدستور. لقد سقطت مصر خلال سنوات حكم مبارك الطويلة في فخ التوريث.. ليس فقط توريث مبارك الحكم لابنه.. وإنما توريث المناصب والمواقع القيادية.. ولما قامت الثورة ألغت مخطط توريث الحكم لكنها لم توقف توريث الوظائف والمناصب للأبناء والعائلات.. بل اعتبر هذا التوريث حقاً وامتيازاً مشروعاً يتم الدفاع عنه علانية وبكل قوة. صار العمل في الخارجية محجوزاً لأبناء السفراء وأقاربهم وممنوعاً علي أبناء الفلاحين والفقراء الذين ليس لهم حق في أن يكونوا دبلوماسيين مهما تفوقوا علمياً.. وكلنا يتذكر كارثة الطالب عبدالحميد شتا الذي تفوق في امتحان وزارة الخارجية لكنه رفض لأنه "غير لائق اجتماعياً".. مما دفعه إلي الانتحار في النيل اعتراضاً علي هذا الظلم الاجتماعي والسياسي. أيضاً العمل في النيابة وسلك القضاء صار يتطلب تقديم شهادة الحالة الاجتماعية لتعيين الطلاب وفقاً لمهن عائلاتهم وممتلكاتهم ومكانة الوالدين والأقربين.. ومؤخراً تم رفض تعيين 138 طالباً متفوقاً بحجة أن آباءهم لا يحملون شهادات عليا.. وقال أحد أعضاء المجلس الأعلي للقضاء أنه لا يمكن أن يعمل في السلك القضائي أبناء الزبالين.. وقال آخر إن أبناء القضاة سيعملون قضاة حتي لو كانت تقديراتهم العلمية أقل.. وذلك لأنهم نشأوا في بيئة قضائية.. ولاشك أن هذه المقولات تنم عن تمييز اجتماعي لا يقره الدستور. وكلية الشرطة لا تقبل أبناء الطبقات الدنيا لظروفهم المادية ومستوي تعليم عائلاتهم.. وكذلك الوضع بالنسبة للمدارس الدولية التي تبحث عن مهنة الأب والأم قبل قبول أبنائهم.. وانتشر هذا التقليد في مدارس اللغات وما شابهها. هذا التمييز الاجتماعي ليس موجوداً في أعتي الدول الرأسمالية وإلا ما وصل أوباما الأسود ابن الطبقة الوسطي إلي الكونجرس ثم إلي البيت الأبيض.. ثم إن مصر كانت رائدة في إلغاء التمييز وتذويب الفوارق بين الطبقات وفتح كل الأبواب أمام أبنائها للتفوق والصعود علمياً واجتماعياً استناداً إلي قاعدة تكافؤ الفرص. لهذا كله.. يجب أن نستجيب بسرعة لحكم القضاء حتي يعود مجتمعنا قوياً متماسكاً كما كان.. لا يعاني من التمييز والكراهية والظلم بسبب كارثة "توريث الوظائف".