قدمنا سابقا أنَّ التيسير معلمى أصيلى من معالم هذا الدِّين. وليس مِنة يمتنُّ بها الفقهاءُ علي المكلفين. فالفقهاء ليسو مشرعين ولا يملكون توسعة أو تضييقًا لم تأذن به الشريعة الغراء. وإنما الفقهاء نقلة وشراح ومجتهدون في استنباط الأحكام في إطار سياج لا يخرجون عنه هو كتاب الله وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقد جاءت أصول التيسير في القرآن الكريم أولا في عدة آيات منها: 1 قوله تعالي في عقب آيات الصيام: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" "البقرة 185".. فهذه الآية الكريمة توضح أن الله سبحانه وتعالي أراد من تشريعاته المختلفة رفع الحرج والمشقة عن المكلفين. وهذا عام ملحوظ في كافة التشريعات وليس مخصوصًا بالصيام فقط. فالله تعالي لا يريد إعناتَ الناس بأحكامه وإنما يريد خيرهم ومنفعتهم وهذا أصلى في الدِّين يرجع إليه. ومنه أخذت القاعدة الفقهية المشهورة المشقة تجلب التيسير. 2 ويقول الحق سبحانه وتعالي: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" "البقرة: 286".. فالله تعالي لا يكلف عباده فوق طاقتهم وقدرتهم. بل لا يصل بالتكليف أبدا إلي الدرجة العليا مما يطيقه الإنسان بحيث يستنفذ طاقته وقدرته. بل يكون التكليف في دائرة السعة التي تُبقِي للمكلف من القوة والنشاط والقدرة. ما يسع لاستعياب أوجه نشاطات الحياة المختلفة. 3 قوله تعالي: "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا" "النساء: 28".. فالإنسان مخلوق ضعيف مهما عظمت وقويت بنيته. ومهما استطاع بذكائه وعقله أن يسيطر علي مقدرات الكون من حوله. لكنه ضعيف بقواه النفسانية وبرغباته الشهوانية التي تضعف سيطرة القوي العقلية علي سائر تصرفاته. ضعيف أيضًا بسيطرة القوي الغضبية عليه في كثير من الأحيان. فكل هذه الانفعالات تحد من عمل العقل وهو مكمن القوة ومناط التكليف في الإنسان. فالله سبحانه وتعالي أراد بمخلوقه الضعيف هذا الرحمة والتخفيف ورفع الحرج ودفع الضرر. 4 ويقول سبحانه وتعالي في معرض الامتنان علي الأمة المحمدية: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج" "الحج: 78".. جاء هذا تعقيبا علي الأمر بالركوع والسجود وفعل الطاعات والمجاهدة في الله حق الجهاد. وكأن المعني: افعلوا هذا جميعًا فقد راعيتُ في التكليف به رفعَ الحرج والمشقة عنكم» فلا أكلفكم إلا بما هو في طاقتكم ووسعكم. وإذا نظرنا إلي السنة المطهرة نري أنها جاءت علي منهج وقانون القرآن الكريم في التأصيل لقضية التيسير. كيف لا وقد وصف الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم بقوله "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم" "التوبة: 128".. وللحديث بقية.