نجح اوركسترا القاهرة السيمفوني أن ينزع مؤقتاً ثوب الأمس الكلاسيكي ويقدم لنا حفلاً من الموسيقي المعاصرة التي تنتمي لحاضرنا وذلك في حفل "اتجاهات مصرية" الذي أقيم علي المسرح الكبير وعزفت فيه عشر مؤلفات معظمها يتم تقديمها في مصر لأول مرة.. وقد جاء هذا الحفل استجابة لما نطالب به علي صفحات هذه الجريدة منذ سنوات طويلة من ضرورة تقديم المؤلفات المصرية من خلال السيمفوني المصري باعتباره الفريق الرسمي والمدعوم من الدولة وأيضاً تقديم الموسيقي الحديثة والمعاصرة ولا تقتصر علي الأعمال التراثية فقط.. الحفل فكرة المايسترو أحمد الصعيدي القائد الأساسي والمدير الفني للسيمفوني ولكن برنامجه وقيادته أسندت بالكامل للمايسترو الشاب محمد سعد باشا الذي قدم برنامجاً واعياً يمثل إضافة كبيرة جداً للفريق المصري في التكنيك والتاريخ كما أنه يمثل تجديداً في الساحة الموسيقية.. الحفل كما اتضح من عنوانه اقتصر علي المؤلفات المصرية المصرية الحديثة والتي تتسم بتقنية معاصرة بعضها تم عزفه في الخارج ضمن مهرجانات متخصصة وقد تميز البرنامج بالتنوع الموسيقي في الشكل والمضمون.. بداية فخمة البداية كانت مع مقطوعة مارش "مصر العظيمة" للمؤلف أحمد عاطف والذي عرفناه مؤلفاً من خلال الموسيقي التصويرية للأفلام والذي يعزف له السيمفوني المصري لأول مرة والتي جاءت افتتاحاً جيداً أداها الأوركسترا بعدده الكبير والذي أضيف إلي آلاته التقليدية آلة الدرامز وكان البيانو قاسماً مشتركاً في معظم المعزوفات.. ومقطوعة أحمد عاطف كانت مقطعاً من الموسيقي التصويرية للفيلم التسجيلي "الإسكندرية" استخدم فيها الآلات النحاسية والخشبية بشكل كبير بالإضافة للآلات الوترية والايقاع.. المقطوعة الثانية كانت للمؤلف صبري حميدة والذي أيضاً يعزف له السيمفوني لأول مرة وكان العمل مجموعة من الجمل الموسيقية المتوازية التي تتلاقي عند ذروة ثم تتفرع في تنويعات ولكن مع ميلوديات مستساغة للأذن.. عقب أداء هذين العملين اللذين يتسمان بفخامة مع بساطة في التكنيك توالت الأعمال التي تعد تجارب جديدة خاصة لجمهور أوبرا القاهرة كما أنها تمثل نقلة حضارية في التأليف الموسيقي المصري.. مقطوعة "إمتزاج" للمؤلف علي عثمان والتي سبق أن عزفت في مدينة سالزبورج بالنمسا وقد استخدم فيها عناصر الموسيقي العربية والسودانية بتقنيات غربية معاصرة مثل الدق علي جسم الآلات الوترية وإحداث أصوات بشرية يؤديها العازفون والتي تعد أساليب جديدة وتمثل أيضاً تجديداً في أداء فريقنا.. وقد أعقب ذلك مقطوعة لخالد شكري والتي أري أنها تمثل تطوراً في التكنيك واستنباطا لنغمات صوتية جديدة لقد جعلنا نستمع لصوت حركة المياه من خلال الآلات الوترية. عقب ذلك جاء مقطوعة بعنوان "ساكسولة" الساكسفون والأوركسترا من تأليف قائد الحفل د. محمد سعد باشا وقد سبق تقديمها مع أوركسترا "لفيف الفيلهارموني" بأوكرانيا عام 2013 ولكن تعزف في مصر لأول مرة والعمل عبارة عن متتالية للناي والساكسفون والأوركسترا مكونة من سبع حركات تم بناؤها علي استخدام بعض الألحان البسيطة المستوحاة من التراث الشعبي المصري بالإضافة لاستخدام بعض الايقاعات المصرية من خلال حوار بين آلتين يتقابلان لأول مرة الناي من الشرق والساكسفون من الغرب وهذا يعد ابتكاراً جميلاً أعطي لهذه المقطوعة ميزة خاصة.. هذه المقطوعة الوحيدة التي رأينا فيها العزب المنفرد وقد أبدع العازفان المصري هاني البدري علي الناي والعازف الألماني ديتراكراوس الذي عزفه الرائع كان من أهم ايجابيات هذا الحفل.. عقبة ومدكور أول مرة تضمن البرنامج عملاً للمؤلف الموسيقي عمرو عقبة والذي تقدم أعماله في مصر لأول مرة رغم أنها قدمت بنجاح في أوروبا من خلال الأوركسترات المتميزة أمثال أوركسترا راديو شتوتجارت السيمفوني وأوركسترا بي بي سي السيمفوني وأوركسترا بروكنرلينز السيمفوني وغيرهم كما قدمت مؤلفاته في العديد من المهرجانات الدولية.. المقطوعة التي استمعنا إليها بعنوان "رادوبيس" وهي مستوحاة من رواية نجيب محفوظ التي تحمل هذا الاسم والتي يسرد فيها قصة حب بين فرعون مصر الشاب "مرنع الثاني والراقصة الجميلة رادوبيس وقوف الكهنة ضد هذه العلاقة.. تم في الحفل عزف الحركة الأولي من العمل والتي أداها مجموعة من الآلات وجاءت بأسلوب معاصر من خلال تقنية جديدة ومبتكرة تمثل إضافة حقيقية.. عقب هذا كان اللقاء مع مقطوعة للمؤلف د. أحمد مدكور الذي أكمل دراسته العليا بأمريكا وقد أبدعها حديثاً ويتم تقديمها لأول مرة.. المقطوعة بعنوان "نسيج 1" وفيها لا يستخدم الهارمونية بمفهومها الشائع ولكنه استخدم في بنائها التجمعات الهارمونية الأثني عشر إلي جانب بعض الأساليب الخاصة بالموسيقي الكلاسيكية المعاصرة مثل التوتر والراحة والدوائر المتداخلة غير المتسقة والضفائر الآلية.. أما مقطوعة "الرقص علي الجمر" لرمزي صبري كان عملاً تعبيرياً مستساغاً وبه بساطة متعمدة من قبل المؤلف. كما تضمن البرنامج مقطوعة راجح داود الشهيرة حورية البحر تكريماً لهذا الفنان الذي يعد استاذاً لمعظم المؤلفين المشاركين في الحفل بمؤلفاتهم ولكن الفقرة المهمة كانت موسيقي دعاء الكروان أحدث انتاج لرائد الوسائط المتعددة د. محمد عبدالوهاب عبدالفتاح والذي أداها الأوركسترا بمصاحبة المشاهد السينمائية من الفيلم الشهير الذي يحمل هذا الاسم وقد جاءت الموسيقي في اطار معاصر ينتمي إلي مدرسة ما بعد الحداثة وقد اتسمت المقطوعة بالجمال الموسيقي والتعبير الدرامي وجاءت ألحانها تجمع بين المقامية واللا مقامية وتضمنت ايقاعات حادة.. الحفل مميز ولكن جاء برنامجه طويلاً إلي حد ما ولكن الشعور بالفخر بهؤلاء الشباب والرغبة في الاستماع إلي الجديد كانت وراء عدم تسرب الملل للنفوس وقد حرص عدد من الأساتذة والمؤلفين علي الحضور منهم الفنان جمال سلامة الذي أكد في حديثه الخاص ل "المساء" انه سعيد برؤية ابنائه الأكاديميين بهذا المستوي العالي من التكنيك ولكن مطلوب أن تقدم المؤلفات المصرية تباعاً في حفلات السيمفوني الأسبوعية ونحن نضم صوتنا له ونضيف يجب تكليف المؤلف المصري وأن ينال أجراً علي مؤلفاته من أجل أن تكون هناك نهضة موسيقية نخطو بها نحو العالمية..