حفل أوركسترا القاهرة السيمفوني الذي أقيم السبت الماضي من أهم حفلات هذا الموسم حيث تجمعت فيه كل عناصر النجاح الفنية من عازف سوليست ماهر وقائد متميز وبرنامج جيد تم اختياره بعناية. الحفل قاده المايسترو نادر عباسي في أول حفل له في هذا الموسم وبعد غياب طويل عن الجمهور المصري وقدم كعادته برنامجاً ذات رؤية يعد هدية لعشاق الموسيقي وبالتحديد رواد هذا الفريق الذي يترددون علي حفلاته بانتظام حيث إنه قدم فقرات لها قيمة فنية عالية في التراث الموسيقي العالمي كما أنها تمتاز بالتنوع في الشكل وبه أعمال صعبة بها استعراض للمهارة كما أن معظم فقراته لا يتم تقديمها كثيراً بواسطة الأوركسترات المصرية كما أن البرنامج جاء مناسباً للاحتفالات التي تقام حالياً بمناسبة مرور 70 سنة علي العلاقات المصرية الروسية حيث إنه باستثناء المقطوعة الأولي المصرية جاء البرنامج من المؤلفات الروسية. تقليد جيد البرنامج بدأ بمقطوعة "روندو بلدي" للمؤلف الموسيقي الراحل د.جمال عبدالرحيم "1924 1988" وجاء ذلك بمناسبة ذكري مرور 25 عاماً علي وفاته وهذا تقليد طيب نتمني أن يحرص عليه كل قادة الأوركسترا وتقدم المؤلفات المصرية في ذكري المؤلفين المصريين خاصة من كتبوا للسيمفوني أمثال الشوان وأبو بكبر خيرت وسيد عوض وغيرهم وياليت الأمر يطال المؤلفين المعاصرين أيضاً ومنهم قائد الحفل نفسه.. والعمل من مؤلفات عبدالرحيم الشهيرة وبالرغم من صياغته في قالب أوروبي إلا أنه تظهر فيه الروح المصرية. الفاصل الثاني من البرنامج لم يكن سيمفونية كعادة هذه الحفلات إنما قدم عملين كبيرين العمل الأول قصيد سيمفوني "جزيرة الموتي" مصنف 29 للمؤلف الروسي سيرجي رخما نينوف "1873 1943" وهذا العمل استلهمه المؤلف من لوحة تحمل هذا الاسم للفنان التشكيلي السويسري أرنولد بوكلين وشاهدها المؤلف في عام 1907 وتأثر بها.. والعمل الثاني مقطوعة موسيقية "بولينز مصنف 24" من أوبرا تشايكوفسكي الشهيرة "أوجين أنوجين" التي كتبت علي مقتطفات من قصة للشاعر الروسي بوشكين والتي سبق أن تناولناها بالنقد والتحليل علي هذه الصفحة. كونشرتو البيانو أما العمل الرئيسي في هذا الحفل والذي تم تقديمه في ختام الفاصل الأول والذي سوف نلقي الضوء عليه في السطور القادمة كونشرتو البيانو والأوركسترا رقم 3 في سلم دو الكبير مصنف 26 للمؤلف الروسي سيرجي بروكفييف "1873 1943" وعزف علي البيانو العازف المصري الشاب محمد شمس الذي بأدائه المتميز جعلني أشعر بالفخر أن لدينا مثل هذا الشاب الموهوب والمجتهد حيث في هذا العمل وصل الي حالة من النضج تؤكد أنه يخطو نحو العالمية.. والكونشرتو من أفضل الكونشيرات الخمس التي كتبها بروكفييف وقد قدم لأول مرة يوم 16 ديسمبر عام 1921 بواسطة أوركسترا شيكاغو السيمفوني وقام المؤلف بالعزف المنفرد علي البيانو. العمل يتكون من 3 حركات استمتعنا من خلالها بعزف رائع من شمس ومن الأوركسترا وبقيادة متميزة من المايسترو عباسي الذي قدم لنا بحرفية تفسيراً جيداً لهذا العمل العظيم وقد اتضح ذلك منذ بداية العمل حيث اللحن الأساسي يقدمه آلات الكلارينت بغنائية ثم تشارك فيه الآلات الوترية وعندما وصل اللحن للذروة دخلت آلة البيانو بطريقة مفاجئة كسرت اللحن الغنائي وأدي العازف جزءاً براقاً واستخدم بعض ملامح اللحن الأساسي هنا جاء أداؤه مؤكداً أننا نستمع لعازف ماهر وفاهم لتفاصيل العمل واطمأن المتفرج أنه سوف يستمع لأداء متميز وقد كان بالفعل سواء في المقاطع الحوارية التي يتبادل فيها البيانو مع الأوركسترا أو في تقديمه اللحن الثاني في هذه الحركة والذي يشبه المارش والذي يتلقفه العازف عقب أداء الأوركسترا ليطوره في واحدة من أهم الأجزاء المكتوبة لآلة البيانو حيث تتضمن استعراض مهارة العازف باستخدامه ايقاعات صعبة والانتقال من أعلي الي أسفل من خلال تقنية فريدة لتقاطع اليدين.. أما الحركة الثانية تعتمد علي لحن بسيط في 5 تنويعات تم تقديمها بشكل حيد جداً من خلال الأوركسترا والعازف ولكن الحركة الثالثة والأخيرة كانت ذروة الاستمتاع والاختبار الحقيقي للعازف وللفريق وللمايسترو تجاوزها الثلاثة بنجاح لأن هذه الحركة تعد من أصعب المقاطع في ريبرتوار آلة البيانو التي تدخل فيما يشبه المعركة الحربية مع الأوركسترا والتي تعتمد في المواجهة علي كم كبير من الزخارف والحليات الصعبة يؤديها العازف المنفرد باسلوب تكنيكي قوي وهنا تكمن قيمة هذا الكونشرتو الفنية الذي لا يعد الأوركسترا مجرد سنيد للعازف المنفرد وإنما له دور أساسي وهناك توظيف جيد للمجموعات الآلية مثل الوتريات بأنواعها وللآلات المنفردة أمثال الفلوت والفاجوت والأبوا والايقاع ولكل هذا نجد أن العمل في حاجة لمايسترو يقظ وماهر ليتمكن من تقديم كل هذه التفاصيل وليسيطر علي الأوركسترا ويحدث الانسجام بين العازف المنفرد والفريق وكل هذا كان متوفراً في نادر عباسي الذي نتمني ألا يغيب عن هذا الموسم والذي تمكن من عازف البيانو محمد شمس أن يقدما الخاتمة المبهرة القوية لهذا الكونشرتو باقتدار وجمال استحق انفجار الصالة بتصفيق متواصل وتعالت صيحات الاعجاب الممزوج بالفخر بهؤلاء الفانين المصريين المتميزين.