بعد نهاية يوم طويل من المحاضرات حول فلسفة دولة الرفاهة التي تطبقها بنجاح الدول الاسكندنافية منذ عقود طويلة سألت "جواكيم بالم" الاستاذ بجامعة اوبسالا السويدية "هل من سبيل للاستفادة من تجربتكم في مصر. وما هي أولي الخطوات التي قد توصلنا في يوم من الأيام لدولة الرفاهة؟"التعليم" قالها الرجل بدون تردد وتابع "التعليم" هو الخطوة الأولي علي الطريق نحو دولة الرفاهة. كان هذا يومنا الأول في العاصمة الدنماركية "كوبنهاجن" وكنا مجموعة تضم عدداً من الصحفيين الاقتصاديين بالصحف القومية والخاصة وباحثين اكاديميين وممثلي عدد من الأحزاب الرئيسية علي الساحة هدف الزيارة التي نظمها المعهد المصري الدنماركي للحوار لكل من الدنمارك والسويد كان الاطلاع علي تجربة دولة الرفاهة في دول الاسكندنافية "النورديك" والتي تضم الدول الخمس "الدنمارك. السويد. فنلندا وايسلندا" وامكانيات الاستفادة منها في مصر. حكايتهم وحكايتنا كان اساتذة الجامعة الأربعة يحكون لنا تاريخ دولة الرفاهة وتطورها منذ بدايتها في القرن التاسع عشر وحتي الآن فيما كانت تدور مقارنة قاسية في ذهني بين ما يقولونه وبين ما نعيشه في مصر علي الرغم من مرور. نحو أربع سنوات علي ثورة 25 يناير التي ظنها المصريون البداية الحقيقية لتغيير واقع حياتهم الاليم مطالبين "بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية". أهداف دولة الرفاهة تتلخص في توفير حياة كريمة لمواطنيها وزيادة العدالة والمساواة سواء بين الطبقات أو بين الرجل والمرأة واتاحة فرص التشغيل للجميع واتاحة شبكة واسعة من الضمان والأمان الاجتماعي يضمن ذلك وينفذه دولة قوية وقطاع عام خدمي. بحسب كلاوس بترسن الاستاذ بمركز أبحاث الرفاهة جامعة جنوب الدنمارك. مسئولية الدولة "الرفاهة مسئولية الدولة من المهد إلي اللحد" فالدولة تقدم تعليماً جيداً لمواطنيها نوعاً واحداً من التعليم للجميع ليس أنواعاً متعددة مثلما هو الحال في مصر تعليم حكومي وتجريبي وخاص "ناشيونال" ودولي "انترنشيونال" وبالطبع التعليم في مصر فيما عدا الدولي منه الذي يتمتع به ابناء الأثرياء لا يؤهل أحداً لسوق العمل. التعليم في دول "النورديك" مجاناً للجميع وحتي التعليم الذي يتولاه القطاع الخاص والذي لا تتجاوز نسبته ال 15% تموله الدولة بنحو 70% ولذلك لا تلحظ فروقاً تذكر بين مستويات التعليم فالناس هنا "شبه بعض". الرعاية الصحية تقدمها الدولة للجميع من خلال مستشفياتها بالمجان بما فيها الأدوية ذاتها ويكفي أن تمتلك رقماً تأميناً حتي تقدم لك الرعاية الصحية كاملة غير منقوصة سواء كنت من أهل البلد أو من المهاجرين. فلا تفرقه بين الأغنياء وغير الأغنياء في الحصول علي التعليم أو الرعاية الصحية فيما يتمتع الأغنياء في بلدنا وحدهم بالحق في الرعاية الصحية اما من لا يمتلك المال. فليس امامه سوي المستشفيات العامة التي ينطبق عليها المثل الشعبي الماثور "الداخل مفقود والخارج مولود" هذا أن وجد سريراً أصلاً. فقراء الرفاهة معدل الفقر هنا تقل نسبته عن 1% وعدد الفقراء الحصري حوالي 50 ألف فقير من بين السكان الذين يبلغ عددهم 5.6 مليون نسمة والفقير هو من يحصل علي دخل يقل عن 15 ألف كرونة في الشهر بما يعادل نحو 16 ألف جنيه مصري أما متوسط الدخل الشهري للفرد فيبلغ نحو 50 ألفاً"بما يعادل 60 ألف جنيه مصري" اما التضخم فاقل من 2% بينما لا يتجاوز عجز الموازنة النصف في المائة بحسب المتحدث الرسمي لوزرة المالية الدنماركية. سوق العمل هنا شديد التنظيم تحكمها الاتفاقيات مع الكيانات النقابية وليس القوانين وتنص الاتفاقيات علي عدد ساعات العمل والأجر والذي يبلغ حده الأدني 16 يورو في الساعة. بحكم الاتفاقيات حرية الدخول والخروج متاحة. وعلي الرغم من حق اصحاب الأعمال في فصل العمال إلا أن مرونة سوق العمل واليات الامان الاجتماعي والتي يطلق عليها المرونة الأمنة "Flexicurity". فمن لا يعمل يحصل علي نفس المزايا الاجتماعية الخاصة بالتعليم والعلاج فضلا ً عن اعانة البطالة والتي كانت تصرف لمدة سبعة أعوام حتي 1990 قبل أن تصبح أربعة أعوام ثم عامين. واعانة البطالة لا تقل عن الحد الأدني للأجور والذي يبلغ 15 ألف كرونة دنماركي تعادل "18 ألف جنيه مصري" في الشهر فضلاً عن ان اتحادات العمال تقوم بدور مهم في اعادة تأهيل العمالة. وبحسب جينس أندرسن رئيس اتحاد عمال الصلب الدنماركي فان الاتحاد يدرب العمال لمدة اسبوعين علي أيه وظيفة حتي يستطيع العامل أن يجد فرصة عمل جديدة اذا ترك عمله "ونحن نستخدم هذه الميزة كورقة ضغط علي اصحاب العمل للحصول علي مكاسب جديدة للعمال. في مصر ورغم وجود قوانين تنظم علاقة العمل إلا أن هناك الآلاف من العاملين الذين تم فصلهم فلم يجدوا سوي الشارع بسبب ضعف الكيانات النقابية فضلاً عن عدم تأهيلهم أو تدريبهم ليجدوا فرصة عمل اخري. الرجال ورعاية الاطفال العدالة والمساواة لم تقتصر علي تقليل الفوارق الطبقية والمادية لكنها امتدت إلي المرأة فنحو 83% من المرأة في الدنمارك والسويد تعمل في الوقت الذي تقل فيه نسبة عمل المرأة في مصر عن 25% والقوانين هنا تشجع الرجل علي المساهمة في اعباء رعاية الأطفال عند ولادتهم بواقع شهرين في العام وذلك من خلال منحهم مزايا اجتماعية حتي لا تكون هذه المهمة مقصورة علي المرأة فقط وذلك وفقا ل "اسالندكفست" بجامعة ليند السويدية. الضرائب كلمة السر الضرائب في دول الرفاهة هي الممول الأساسي للمنظومة ولذك تشتهر دول ال "نورديك" بأعلي مستويات الضرائب علي الدخل خاصة الدنمارك التي تتجاوز فيها الضريبة علي الدخل نسبة ال 50 في حين تفرض الدولة ضريبة اقل علي الشركات بنسبة 22% والدولة تتيح كافة الظروف المناسبة للعمل والنمو وزيادة الأرباح. حتي ينعكس ذلك علي ايرادتها الضريبية التي يلتزم بها الأفراد والشركات ولا اعتقد أن هناك من يتهرب من دفع الضرائب ليس بسبب صرامة القوانين ولكن لان الجميع يعرف أين تذهب ضرائبه ليس فقط في الخدمات التعليمية والصحية الجيدة وشبكة الأمان الاجتماعي. بل ايضا في تنظيم جميع مرافق الدولة وتوفير جميع عناصر الحياة الكريمة خاصة ما يتعلق بحرية وكرامة من يعيش علي ارضها مواطنين ومهاجرين علي السواء.