فى فبراير الماضى، كان برنامج 60 دقيقة الأمريكى، أحد برامج المجلات التليفزيونية المعروفة، يبث تحقيقا عن سر سعادة الدنماركيين الدائمة، التى تجعلهم فى كثير من الاستطلاعات يحتلون المركز الأول فى قائمة «أسعد دولة على وجه الأرض». تحدث البرنامج عن حصول الدنماركيين على رعاية صحية مجانية ودعم حكومى للأطفال وتعليم مجانى وغيرها من المميزات التى يحصل عليها مواطنو المملكة السعيدة. لكن تحقيق البرنامج تجاهل حادثة وقعت قبل يومين فقط من البث، وهى القبض على 17 شابا مسلما على خلفية أحداث شغب تضمنت إحراق سيارات ورشق الشرطة بالحجارة. قال المسلمون إن الشغب اندلع بسبب تعدى شرطى دنماركى على مسلم بالضرب، وساعد فى إشعال العواطف الدينية قيام بعض الصحف الدنماركية بإعادة نشر الرسومات الكارتونية المسيئة للرسول، التى نشرت للمرة الأولى فى 2005 بجريدة يولاندس بوستن. فهل كان غضب المسلمون شائبة لا تعكر صفو المجتمع الدنماركى، ولا تستحق الذكر؟. «نعم، ربما كان ذلك صحيحا، فنحن هنا نعيش فى سعادة وراحة، وغضب الشباب المسلم سببه الحقيقى انتشار المخدرات والفراغ بين بعض الشباب». صوت الشاب العربى محمود، وليس هذا اسمه الحقيقى، الذى يعيش بمجمع ميولنارباركنز السكنى الذى بنته الحكومة للاجئين والمهاجرين وفقراء الدنماركيين، والذى يقع فى حى نوريبرو بكوبنهاجن، وهو الحى الذى يسكنه غالبية ساحقة من المهاجرين الفلسطينيين. الحى فى معماره شعبى فقير مقارنة بالبيوت الدنماركية، إلا أنه يتميز بالنظام والهدوء. 500 أسرة تسكن الحى فى مبانى متطابقة التصميم، ومساحة كل شقة 80 مترا مربعا. داخل المجمع ساحة للعب الأطفال، وقاعة مليئة بغسالات الملابس لاستعمال أهل المجمع برسومات رمزية. الحجاب بأشكاله وتنويعاته المعبرة عن التنوع العرقى الكبير لسكان المجمع هو الزى السائد لنساء الحى. مدرسة اللاجئين يجلس محمود فى شقة بالدور الأول من أحد عمارات مجمع ميولنار باركنزنز السكنى، يستخدمها أهل المجمع كمقهى عربى. على حوائط المقهى صور للراحل عبدالعزيز الرنتيسى، القيادى فى حركة المقاومة الإسلامية حماس، وبعض شهداء الحركة. بجانب الموقد اصطفت النراجيل وفى الخلفية تصدح أغنية شعبية مصرية: أركب الحنطور واتحنطر. محمد مهاجر فلسطينى مسلم هاجر إلى الدنمارك فى 1986 وعمره، 21 عاما، بعد أن فر من مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين فى لبنان بعد اندلاع «حرب المخيمات» بين حركة فتح وحركة أمل اللبنانية الشيعية. يعرف محمد أن وسيلة دخول الفلسطينيين إلى الدول الأوروبية طلبا للجوء معروفة: يحجز طالب اللجوء تذكرة سفر لدولة فى أمريكا الجنوبية يسهل الحصول على تأشيرتها، وحين ينزل فى دولة أوروبية أثناء الترانزيت، يمزق جواز سفره ويتجه إلى سلطات الدولة الأوروبية طلبا للجوء. تتسرب الكلمات من محمد بعد فترة من الحديث، فيعترف أنه قد اتبع سيناريو مشابها، فنزل فى مطار برلين الدولى، إلا أنه أخفى جواز السفر ولم يمزقه. السبب فى ذلك أن القوانين اللبنانية حنى وقت قريب كانت تمنع الفلسطينيين من سكن مخيمات اللاجئين فى حالة حملهم جنسيتين. لذلك احتفظ محمد بجواز سفره ليستطيع الرجوع إلى المخيم فى حالة ما اضطره ظرف طارئ مغادرة الدنمارك والرجوع إلى لبنان. بعد وصول محمد إلى برلين طلب من السلطات الألمانية ترحيله إلى الدنمارك لطلب اللجوء هناك، واختار الدنمارك بسبب نجاح أصدقائه فى الاستقرار بها من قبله. «فى الوقت دا كان اللجوء سهل جدا، وتم استقبالى من غير مشكلات»، وهو ما دفع بعض المصريين والعرب من جنسيات مختلفة لادعاء أنهم فلسطينيين للهجرة، «إلا أننا عمرنا ما بنفتن عليهم». بعد شهرين من المعيشة فى معسكر للاجئين، التحق محمد بمدرسة داخلية مخصصة لدمج اللاجئين فى المجتمع الدنماركى وتعليمهم الكلمات الأساسية للغة البلد، «وقالوا لنا إن الدنماركيين غير متأقلمين مع الأجانب، وبدكم تستحملوا». بعد التأهيل عرضت الحكومة على محمد الإقامة فى واحدة من 3 مناطق مخصصة لسكن اللاجئين، فاختار ميولنا باركنزينج، حيث أصدقائه. حصل محمد على تعليم تقنى مجانى بميكانيكا السيارات وشقة. عمل محمود بإصلاح سيارات أصدقائه ومعارفه بعد أن فشل فى الحصول على وظيفة ثابتة، ثم عمل بالصليب الأحمر الدنماركى، ولكنه تقاعد بعد أن أثبتت التقارير الطبية أنه يعانى من متاعب صحية تمنعه من العمل. حصل محمود على الجنسية الدنماركية بعد 7 سنوات من الإقامة فى البلد ويعيش الآن محمد زوجته وأطفاله الأربعة، الذين ولدوا جميعا بالدنمارك. يعمل محمود فى مهنة مريحة لبضع ساعات كل يوم، فى حين لا تعمل زوجته على الإطلاق، فقد حاولت الحصول على عمل، لكنها فشلت، طبقا لروايته. الدخل الرئيسى لأسرة محمود هو المعونة الحكومية. «أحصل على برانية من الحكومة الدنماركية تبلغ 15 ألف دولار فى الشهر»، و«البرانية» هى اللفظ الذى يطلقه الفلسطينيون على الدعم الحكومى للاجئين، إشارة إلى أن هذا الدعم معفى من الضرائب. إضافة لذلك يحصل محمود على دعم من الحكومة الدنماركية كل ثلاثة أشهر مخصص لرعاية أطفاله، ويبلغ الدعم 3 آلاف كرون، أى أقل من 600 دولار أمريكى، لكل طفل إلى أن يبلغ، 18 عاما. «إحنا هنا مرتاحين، وقاعدين فى بلد استضافتنا بعدما هربنا من الحرب أو الفقر». حجاب لمى الفلسطينية «نحن ما زلنا أغرابا داخل الدنمارك». على، ليس اسمه الحقيقى، الذى ينضم للحديث يضيف أن الدنمارك فى رأيه لا ترحب بهم ولا ترحب بأبنائهم، «لكنها بالتأكيد سترحب بالأحفاد». على أيضا فلسطينى من برج البراجنة، يرتدى كوفية تقليدية فى طرفها علم فلسطين، ويتحدث بحنين شديد عن «وطنه لبنان»، متجاهلا أنه كان هناك لاجئ أيضا، «مهما كان عندنا من فلوس أو سكن هون، إحنا فى وطن غريب له عادات غير عاداتنا وقيم غير قيمنا». يفسر على نظريته حول «الجيل الثالث» بأن الدنمارك لا ترحب بقيم المهاجرين الإسلامية، ولن ترحب بأبناء المهاجرين الذين يحملون القيم نفسها بدرجة أقل، رغم أن استعدادهم أكبر لقبول المجتمع الدنماركى. «لكن الجيل الثالث حيكون نسى كل حاجة وحيصير دنماركى صرف». يخشى على من تأثير القيم الغربية المتعلقة بالاختلاط وشرب الكحوليات على أطفال وشباب المسلمين. «كلمة الاندماج هنا معناها التطابق مع أهل البلد، وليس الاحترام المتبادل»، فى رأى لمى، الفلسطينية التى تعمل أخصائية اجتماعية للنساء فى الحى، إضافة لعملها كطاهية. «الناس هنا يسألوننا لماذا لا نشرب الكحوليات؟ لماذا لا نصادق الرجال؟»، وهو فى نظر لمى رفض لقبول الآخر بهويته، بل طمس لهويته ومحاولة مطابقته بالأغلبية. ترتدى لمى حجابا يغطى شعرها وعنقها حتى الذقن ونصف غرة رأسها. «هذا الحجاب كان يسبب لى مشكلة فى إخراج بطاقة الهوية الشخصية وصور الأوراق الرسمية». إلا أن القوانين الدنماركية قد تساهلت مع المحجبات مؤخرا بالسماح لهم بالتصوير بالحجاب على أن يظهر الوجه فى الصورة كاملا وواضحا، وهو تحسن جيد طبقا للما. لاجئون على المقهى «أقمنا احتفالا ترفيهيا لأطفال الحى، وطلبنا من العائلات بعض الأطعمة ليأكلها الأطفال أثناء اللهو»، يروى سكيلد بيترسن، المشرف العام على حى مجمع ميولنارباركنز السكنى، «لكن النساء بقين فى البيوت وبعثن البنات لإحضار الطعام لساحة الحى». يضيف المسئول أن «نسبة ضخمة من نساء الحى لا هم لهن سوى تعليم الأطفال وواجبات المنزل، وقد تمضى أيام وأسابيع دون أن يخرجن من منازلهن على الإطلاق، وخطورة ذلك ليست فقط فى عدم قدرة هؤلاء النساء على الاندماج، بل فى تأثير ذلك على أطفالهن». إدارة الحى تضطر لتنظيم دروس خصوصية من أجل تعليم الأطفال بعد المدرسة، لعدم قدرة أهاليهم على مساعدتهم فى حل الواجبات المدرسية والمذاكرة، والسبب الرئيسى فى عدم عمل كثير من نساء الحى ليس عدم القدرة على إيجاد وظيفة، بل هى تمسك الزوج بالتقاليد التى تمنع من عمل المرأة خارج المنزل. «بعض الرجال هنا لا وظيفة لهم سوى الجلوس فى المقهى، ولا علاقة لهم بتربية الأطفال». الوضع شاذ بالنسبة للمجتمع الدنماركى، الذى تعمل أكثر من 90% من نسائه فى وظائف دائمة ومستقرة، وهى واحدة من أعلى نسب توظيف المرأة فى العالم. ويتهم مسئول الحى بعضا من اللاجئين بإساءة استخدام مبالغ المعونة، «فهم يوفرون منها مبلغا كبيرا من أجل السفر سنويا إلى لبنان، بل إن بعضهم يشترى أماكن سكن ومحال تجارية هناك»، وهو ما يعنى أن نسبة ليست قليلة من مبالغ المعونة تتسرب خارج البلاد ولا تستغل فى أغراضها الأصلية كتربية الأطفال فى بيئة صالحة ورفاهية الأسرة. ويعتبر بيترسن «غالبية سكان المخيم من المعتدلين دينيا، إلا أن التطرف الدينى يجد طريقه إلى نفوس قلة منهم. بعض الباكستانيين والفلسطينيين كونوا ما يسمى بحزب التحرير». وهو حزب غير معترف به من قبل الحكومة. الدستور الدنماركى يسمح بتكوين أحزاب على خلفية دينية، على أن تقر باحترام الدستور والنظام الديمقراطى. «هذه الشروط لا تنطبق على حزب التحرير، الذى يحرم الانتخابات باعتبارها مخالفة لتعاليم الإسلام، ويحذر سكان الحى من الانضمام بها». بلهجة لا تخلو نم التحذير يضيف بيترسون أنه «إذا لم يتغير الوضع سيفقد المجتمع الدنماركى تعاطفه مع اللاجئين، فالدنمارك، كغيرها من الدول الإسكندنافية تعانى من مشكلة تناقص حجم الشباب العامل، وزيادة تعداد كبار السن المعتمدين على المعاش والإعانات الحكومية. وبالتالى فإن وضع اللاجئين بهذا الشكل يصبح عبئا متزايدا على الاقتصاد الدنماركى». ويرى المسئول أن المعونة الكبيرة التى يحصل عيها اللاجئون من أسباب قلة إقبالهم على العمل ومنع المرأة منه. الحد الأدنى من الأجور فى الدنمارك يصل إلى 4 آلاف دولار، «والفارق ليس كبيرا بين هذا الراتب والمبلغ الذى تحصل عليه المرأة فى بيتها دون عمل كمعونة». يؤكد أنه فى صدد طلب زيادة فى الدعم المادى من البرلمان الدنماركى، لتوفير فرص عمل تغرى النساء بالعمل، وأيضا لدعم الأسر الثرية وإقناعها بالبقاء فى ميولنار باركنزينج وعدم الرحيل، «لأننا نريد زيادة التنوع الطبقى داخل الحى، حتى لا يصبح حيا للفقراء والمحتاجين فقط، ويصير حلم كل طفل هو الخروج منه». هنا شوارع بيروت «الوعى القليل للجالية الفلسطينية لم يؤهلها أن تتحول إلى قوة ضاغطة فى المشهد السياسى الدنماركى». يجلس عمرو الحورانى، رئيس المفوضية الفلسطينية فى الدنمارك بغرفة الاستقبال بالمفوضية الفخمة الموجود فى حى مميز من أحياء كوبنهاجن. صور أبى عمار وأبى مازن تتناقض مع صور الرنتيسى وشهداء حماس فى بيوت حى ميولنارباركنز، وتكشف عن حجم الهوة بين المفوضية والجالية. ينتقد الحورانى الجالية الفلسطينية فى الدنمارك، التى يقدر عددها بنحو 30 ألفا، بلهجة بالغة الحدة، قائلا إن المفوضية لا تستطيع التأثير فيها كثيرا لأن الفلسطينيين فى الدنمارك «أكثر تأثرا بالمسجد عن أى مؤسسة مدنية». يقول الحورانى إن الكثير من اللاجئين يشعرون أن وجودهم مؤقت، «زى الناس اللى بتسافر الخليج» لجمع الأموال ثم العودة لبلادهم مرة أخرى، مما فوت عليهم فرصة إدراك أن وجودهم فى دولة أوروبية قد يجعلهم أكثر تأثيرا فى خدمة القضية الفلسطينية عن وجودهم فى مخيمات اللاجئين بلبنان والأردن. يرى الحورانى أن وضع الجالية الفلسطينية بالدنمارك أسوأ كثيرا من الجاليات المماثلة فى دول أوروبية أخرى، «لأن أحياء كاملة من لبنان تم نقلها بالطائرة إلى كوبنهاجن»، فحملت معها كل ثقافتها بمزاياها وعيوبها دون استعداد للانفتاح، على حد قوله. بل يزيد الحورانى لهجة الانتقاد مؤكدا على أن ردود فعل الجالية أثناء حرب غزة 2006 أضرت بالقضية الفلسطينية أكثر مما أفادتها، والتى تمثلت فى مظاهرات غاضبة تهتف فى ميادين كوبنهاجن شعارات من طراز «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود». «لقد خرجوا وتظاهروا بشعارات دينية غربية عن ثقافة المجتمع الدنماركى، وأعطت الفرصة للكيان الصهيونى واليمين المتطرف فى مهاجمة المسلمين فى البلد». يؤكد الحورانى أن الطريقة المثلى لخدمة القضية الفلسطينية هى أن يعمل أبناء الجالية بجد فى الحصول على وظائف محترمة ورفع مستوى معيشتهم، «وحين يرى الدنماركى زميله الفلسطينى العربى مهندسا وطبيبا، يومها فقط سيغير صورته عن العربى وعن القضية». لا يبدو الحورانى متفائلا بتغير الوضع كثيرا فى السنوات القليلة المقبلة، ويردد عبارة تكاد تتطابق مع ما ذكر لاجئ فلسطينى. «الجيل الأول من الصعب تغييره، والجيل الثانى معلق بين ثقافتين. الأمل كله فى الجيل الثالث».