بعيداً عن مصر بسياستها العاجزة عن كل شىء إلا صناعة الأزمات. بعيداً عن مصر بنخبتها السياسية التى تغرق، وبدون أدوات أخرى، فى ثنائية «الحوار واللاحوار». بعيداً عن مصر وفى الكثير من دول العالم ثمة سياسة نظيفة تحقق الصالح العام ونخب سياسية تتسم بالكفاءة والفاعلية والقدرة على الابتكار والإبداع وهى تتعامل مع مجتمعاتها. بعيداً عن مصر وفى الكثير من دول العالم نجد رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات منتخبين لديهم مع أحزابهم رؤية واضحة يجتهدون لتطبيقها وتصويبها ويمارسون النقد الذاتى حين تأتى النتائج على خلاف التوقعات. بعيداً عن مصر وفى الكثير من دول العالم هناك أحزاب وقوى معارضة تمتلك بدائل سياسية وتبحث انطلاقاً منها عن قواسم مشتركة مع الحكم تحقيقاً للصالح العام، وتحتفظ بحد واضح من الاختلاف معه، ليس فقط لدواعى المنافسة فى الانتخابات القادمة. فى عددها الأسبوعى قبل الأخير (2 فبراير 2013)، أوردت مجلة «الإيكونوميست» (الاقتصادى) تقريراً خاصاً يحلل أسباب الأداء الاقتصادى والاجتماعى المتميز لحكومات الدول الإسكندنافية الأربعة (السويد وفنلندا والنرويج والدنمارك) ويشرح تنامى قدرتها على التعامل مع الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية مع الاحتفاظ بمعدلات نمو مرتفعة وبشبكات واسعة للرفاهة الاجتماعية (الترجمة الفعلية للعدالة الاجتماعية فى ظل اقتصاد السوق بحد أدنى للدخول ورعاية صحية كاملة وإعانات بطالة وإعادة تأهيل وتوظيف القادرين على العمل وغيرها). يتناول التقرير إنجاز السويد التى خفضت معدل الإنفاق العام (منسوباً إلى الناتج القومى) من 67 بالمائة فى 1993 إلى 49 بالمائة فى 2012، والتى حولت نسبة 11 بالمائة عجزاً فى موازنتها فى 1993 إلى فائض بنسبة 0.3 بالمائة فى 2010. ويشير أيضاً إلى إنجازات مشابهة فى بقية الدول الإسكندنافية فى مجال تحرير سوق العمل (الدنمارك) ونظم التعليم (فنلندا) والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة فى الموارد الطبيعية المعرضة للنضوب (البترول والغاز الطبيعى فى النرويج). ومن بين الكثير من الأسباب التى يسردها التقرير لتحليل تفوق الإسكندنافيين، من قطاع خاص قادر على الابتكار وعمالة متعلمة تقبل إعادة التأهيل والاستجابة للتغير المستمر فى ضرورات السوق، ثمة تركيز واضح على الإدارة الرشيدة والديمقراطية للشأن العام عبر النخب السياسية فى الحكم والمعارضة. نخب وأحزاب هذه الدول هى إما يمينية محافظة أو اشتراكية ديمقراطية أو تنتمى لتيارات اليسار الجديد كالخضر، وهم فى جميع الأحوال نجحوا خلال العقد الماضى فى التوافق على أسس الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى وأنتجوا رؤية متماسكة تتجاوز حدود اليمين واليسار، مكوناتها اقتصاد سوق متطور والرفاهة الاجتماعية والمساواة بين المرأة والرجل ومسئولية المواطن فى مساعدة القطاع الخاص والدولة على إبقاء التناقضات بين اقتصاد السوق (المنافسة والبقاء للأقوى) والرفاهة الاجتماعية (الإنفاق العام لصالح الفئات المهمشة والضعيفة) ومبدأ المساواة (كغاية عليا) فى حدودها الدنيا. ولم تنجح نخب السياسة فى الدول الإسكندنافية فى ضمان تأييد شعبى واسع لإصلاحاتها إلا من خلال التزامها الكامل بالشفافية وبإشراك المواطن فى إدارة الشأن العام وبمحاسبة المسئولين المنتخبين والمعينين. ارتبط نجاح النخب، إذن، بممارستها للسياسة النظيفة التى تسعى لتحقيق الصالح العام وتحترم حق المواطن فى الشفافية والمشاركة وفى محاسبة المسئول. خلال العقد الماضى تبدلت الائتلافات الحاكمة فى السويد وفنلندا والنرويج والدنمارك، وتبدلت من ثم مواقع الحكم والمعارضة، واستمرت السياسات الإصلاحية دون تغيير أو تعطيل لكونها نتجت عن توافق وطنى (حقيقى وليس ما نبتذله نحن فى نقاشاتنا المصرية). أين نحن من هذه السياسة النظيفة التى تبتكر وتبدع وتواجه الأزمات؟ فى هوة سحيقة بعيدة عنها وحولنا من أسوار «حوار أم لا حوار» و«حكومة جديدة أم لا» و«شراكة وطنية أم انفراد واستئثار» و«وثائق لقتل السياسيين أم نبذ للعنف» ما يباعد بيننا وبين الصعود التدريجى.