في أواسط الستينيات عهد إلي الراحل سليمان مظهر بتحرير الصفحة الأدبية بجريدة "تعاون الفلاحين" ولأن اسم الجريدة كان يدل علي القارئ الذي ينبغي أن تتجه إليه فقد أتيح لي التعرف إلي أبعاد الحركة الثقافية في الأقاليم وصداقة الكثير من المبدعين بعضهم واصل طريقه فهم الآن نجوم الساحة الإبداعية والبعض الآخر شغلته عن الإبداع شئون وشجون وكان للمساء - بإشراف الحادي المخلص عبدالفتاح الجمل - دورها في تقديم المواهب الحقيقية وهو الدور الذي تحرص علي أدائه حتي الآن. وجدت في باب نادي أدباء الأقاليم الذي قدمه في الجمهورية الراحلان الكبيران محمد صدقي "سبق الجميع في إخلاصه للقضية منذ تحقيقاته في مجلتي الهدف والغد" ثم محسن الخياط جهدا موازيا لتحريك الواقع الثقافي في أقاليم مصر. عرف الجالسون وراء مكاتب المركزية في القاهرة ما تحياه أقاليم مصر من حركة أدبية موارة وخصبة وفرضت تسمية أدباء الأقاليم نفسها. لا تعبيرا عن عزلة كانت قائمة بالفعل وإنما كان الهدف تقديم هؤلاء الذين اختاروا الاقامة في مدنهم الاقليمية وقراهم يبدعون ويصنعون من طابع البريد جسرا بينهم وبين وسائل النشر والإعلام في القاهرة. أصارحك بأني لم أتحمس لاستبدال تسمية أدباء مصر بأدباء مصر في الأقاليم التسمية الملغاة تعني التحديد والبعد عن تمييع المشكلات ثمة مشكلات حقيقية ومعلنة تعانيها الحياة الإبداعية والثقافية بعامة في أقاليم مصر وإن وجد الكثير من تلك المشكلات حلولا عبر المؤتمرات المتتالية لأدباء مصر في الأقاليم. من حق الحركة الأدبية خارج العاصمة أن تجد في هيئة قصور الثقافة وفي مؤتمرها السنوي مجالا لمناقشة مشكلاتها فلا تغيب تلك المشكلات وراء مسميات أخشي أنها قد تأتي بعكس ما تعبر عنه دليلنا ما تحقق بالفعل تحت التسمية الملغاة! أرقام البيانات التي أصدرتها هيئة قصور الثقافة عن أنشطتها توضح أن عدد مواقعها الثقافية يزيد علي 560 موقعا بين قصر وبيت ومكتبة أما عدد العاملين فيزيد علي 17 ألف موظف تلتهم الميزانية المخصصة لهم 80% من اجمالي ميزانية الهيئة. الهدف الذي قامت هيئة قصور الثقافة من أجله هو وصول الثقافة إلي أبعد وأصغر قرية مصرية.. وهو هدف طال تمنيه وغيابه لعدة أسباب منها: تسلط البيروقراطية المركزية.. التعامل مع الأقاليم الثقافية بمنطق "الشروة" دون اعتبار للخصائص البيئية والجغرافية التي ربما لا تري. لكنها تمثل سمات مميزة لكل إقليم.. إهمال الخبرات الأكاديمية ممثلة في الجامعات الاقليمية والإبداعية ممثلة في المبدعين الكبار الذين لم يغادروا أقاليمهم.. التحرك علي أرضية المجاملة والمصالح المتبادلة.. السعي للافادة من المنصب.. تقديم الكثير من المحاضرين في موقع الأستاذية والأولي بهم مقاعد التلمذة.. تصاعد النشر في مواجهة تقلص واضح لأنشطة المسرح والسينما والفن التشكيلي وغيرها من الأنشطة الفنية والتطبيقية.. الاهتمام بالكم علي حساب الكيف - الذي يفترض أن تكون له الأولوية - في نشاط الهيئة الخدمي.. ثبات مستويات القيادة دون اتاحة فرص حقيقية للأجيال الطالعة من المبدعين والفنيين والإداريين بما تمثله من طاقات فاعلة. بناية للعرائس ! بداية فإن البناية الحالية التي تضم رئاسة الهيئة وإدارتها الأساسية قد تصلح لسكني العرائس وهو الهدف الذي أنشئت من أجله لكن من الصعب أن ينطق منها - بصورتها الحالية - نشاط حقيقي للهيئة الأهم في وزارة الثقافة. الغريب ان الهيئة تملك الكثير من الأبنية التي تصلح للإدارة المركزية انطلاقا إلي القصور والبيوت في امتداد أقاليم مصر. فلماذا لا تنتقل رئاسة الهيئة وملحقاتها إلي واحدة من تلك البنايات أرفض المركزية في الأنشطة المتصلة بالجماهير لكنني أشفق علي عمل أريده جاداً ومثمرا في عمارة تتداخل حجراتها وقاعاتها بين مكاتب هيئة قصور الثقافة ومكاتب المحاسبين والمحامين والشهر العقاري والشقق السكنية! وتسمية قصور الثقافة تعني ان نشاط الهيئة ينهض علي ما تسهم به قصور الثقافة وبيوتها كل في البيئة التي يصدر عنها ويتجه إليها أوافق الصديق عز الدين نجيب في ألا يقتصر عمل مدير قصر الثقافة علي مجرد التنفيذ وإنما تترك له حرية وضع الخطط التي تراعي الواقع الثقافي والمعيشي وما تحتاج إليه البيئة من خدمات. أضيف إلي ذلك ملاحظة تتصل بشخصية مصدير القصر. من المهم أن يتولي الإشراف علي قصر الثقافة مبدع من أبناء الاقليم روائي أو شاعر أو فنان تشكيلي أو سينمائي أو مسرحي أو علي صلة وثيقة بالعمل الثقافي. الأهم أن يكون من أبناء الإقليم حتي يتعرف إلي احتياجات البيئة بصورة حقيقية. الموظف الذي تعينه الدرجة الوظيفية أولي به العمل الإداري بعيدا عن الأنشطة الإبداعية التي تصدر عن تعرف إلي ما تحتاجه البيئة. أشير - بالمناسبة - إلي ذلك الصراع السخيف - داخل الهيئة - بين المبدعين والإداريين حول المناصب القيادية فضلا عن أن التعيين بالدرجة الوظيفية وليس بالقدرات المبدعة جعل الصراعات ظاهرة في إدارات الهيئة هو صراع علي القيادة علي الوظيفة العليا وليس علي إفادة البيئة بإسهامات مبدعة. أرقام بلا عائد القوائم الورقية أي القوائم التي تتضمن أرقاما ومسميات في أوراق مشكلة مهمة أخري تعنيها هيئة قصور الثقافة فالعائد الإيجابي يصعب تحقيقه مئات الأنشطة تسجلها البيانات لكن المردود يغيب أو يبدو بعيدا وهو ما يبين - علي سبيل المثال - في الكثير من عروض الهيئة. عندما نحاول متابعتها أو حين نبحث عن الكتاب الذي نريده فلا نجد نسخة حتي في منافذ التوزيع التابعة للهيئة مجرد بيانات في الأوراق لا فرصة فعلية في الوصول إلي يد القارئ الذي يطلبها لأن أعداد النسخ قليلة للغاية.. يا دوب تكفي الإهداءات! بالمناسبة فلعله يجدر بالهيئة أن تراجع إصداراتها بحيث تبقي علي المطبوعات التي تؤكد الدراسات جدواها وتعيد النظر في المطبوعات التي تعاني قلة القراء مع التنبه إلي أن النشر نشاط جانبي للهيئة تسبقه - بالضرورة - أنشطة أخري تسعي إلي الفعل الثقافي. والتنوير وتستهدف إبراز المواهب وتقديمها في مجالات الإبداع المختلفة لا أقلل من أهمية النشر في الهيئة وإن كان من واجبي أن أشير إلي أن العمل الثقافي الجماهيري لا يقتصر علي بعد واحد لكنه يشمل كل ما يضيف إلي البيئة ويطورها ويثريها. النشاط الذي يغلب علي الهيئة - إلي حد كبير - هو إصدار المطبوعات قياسا إلي ما عداه من أنشطة مهمة.. لكن شحوب الصدي أو غيابه - للأسف - هو ما يبين - حتي الآن - في عمليات النشر بقصور الثقافة. أغنانا الرئيس الأسبق سعد عبدالرحمن عن الإفاضة في هذا الأمر باعترافه أن معظم سلاسل الهيئة تنفد نتيجة إقبال تجار الكتب عليها لأنها زهيدة الثمن! أذكر المؤتمر الذي تبني توصية بأن تعني الثقافة الجماهيرية بإبداعات الأدباء المقيمين في الأقاليم - كانت حساسية التسمية غائبة - وجد الاقتراح تأييدا من أعضاء المؤتمر وصدرت مجلة "الثقافة الجديدة" تضم إبداعات هؤلاء الذين يصلهم طابع البريد بمراكز النشر في العاصمة وكانت الخطوة التالية إصدار مطبوعات تعني أيضا بإبداعات هؤلاء الموهوبين. تضخم مشروع النشر في هيئة قصور الثقافة - اسمها الحالي - فهو السيد الذي يتمتع بكل العز والأبهة شحبت إلي جوار قامته العملاقة أنشطة أخري أدركت ان عليها التقاط الفتات مما قد يتساقط من النشر. وإذا كانت إدارة النشر قد بدأت بلا تسمية محددة. فهي الآن واجهة نشاط قصور الثقافة ومحتواه الأهم. أوافق علي الرأي بأن الهيئة أصدرت مطبوعات - في سلسلة الذخائر بخاصة - تمثل اضافة مهمة في المكتبة العربية.. لكن هذه السلسلة تختفي بمجرد صدورها لا أحد يعرف المسارب التي اتجهت إليها فضلا عن أن المزيد من التنسيق بين هيئات وزارة الثقافة يضع كل شيء في إطاره الصحيح. نشر المطبوعات عمل وحيد لهيئة الكتاب. وعمل مكمل لهيئات وزارة الثقافة الأخري ثمة مطبوعات تصدر عن أكاديمية الفنون والبيت الفني للمسرح والمجلس الأعلي للثقافة والمركز القومي للترجمة وصندوق التنمية الثقافية وغيرها.. لكن قصور الثقافة تتسم بتكامل أنشطتها. هيئات الوزارة الأم تقدم أنشطة رئيسية إلي جانب أنشطة أخري فرعية أما قصور الثقافة إن مسئولياتها أنشطة متكاملة للعمل الثقافي في الأقاليم. وبالتحديد فإن قصور الثقافة تعني بالعمل الثقافي في إطلاقه وليس نشر المطبوعات وحدها. ومع أن كتب الهيئة تشكل مكتبة هائلة تلبي كافة الاحتياجات المعرفية. فإن الهيئة - بدعوي تشجيع المواهب! - خصصت قسم للتزويد تابع لإدارة المكتبات. مهمتها اقتناء الكتب التي تحتاج إليها مكتبات قصور الثقافة. لكن الهدف النبيل يتلاشي في عملية التزويد فمعظم الكتب التي يتم اختيارها لمؤلفين شاحبي الموهبة لكن إلحاحهم بأكثر من وسيلة يضع مؤلفاتهم علي أرفف مكتبات الهيئة بدلا من الإلقاء في سلال المهملات! قوافل الثقافة اللافت أن الكثير من القري والمدن الصغيرة التي امتدت إليها أنشطة الثقافة الجماهيرية - كان هذا هو اسمها - لامست الفعل الثقافي للمرة الأولي. لم تكن الهيافة قد أحكمت سيطرتها - كما الحال الآن - في قنوات التليفزيون والقنوات الفضائية حتي البرامج الكلاسيكية لفاروق شوشة ودرية شرف الدين وغيرهما طالت معاناتها حتي اختفت. تعددت معطيات الثقافة الجماهيرية بين الكتاب والمسرحية والفن التشكيلي والفنون الشعبية والإبداع الإنساني بعامة بالاضافة إلي الأنشطة التطبيقية التي تشغل أوقات الفراغ وتضيف إلي الدخل. لذلك فإني من غلاة المؤيدين لقوافل الثقافة ليس بالمعني الحالي: باص يحمل مجموعة من الكتاب والفنانين والإعلاميين تنزل قرية أو مدينة. تقضي نهارا أو جزءا من ليلة في تقديم أنشطة إبداعية ثم تعود إلي القاهرة.. ويا دار ما دخلك شر! القافلة الثقافية التي أعنيها هي التي تضم من المعارف والفنون ما يحقق خدمة متكاملة. ثمة المكتبة والعرض السينمائي والعرض المسرحي وعرض الفنون الشعبية ودروس الفن التطبيقي وغيرها مما تحتاجه البيئة لا يقتصر علي وقت محدد لكنه يتواصل في أيام متقاربة بحيث تتحقق الفائدة. مؤتمر أدباء الأقاليم أما النشاط السنوي المهم المتمثل في مؤتمر أدباء الأقاليم فإن الملاحظة الأولي تتصل بدلالة تلك المؤتمرات. الملاحظ ان فكرة المؤتمر تطرح في البداية ثم تصرح - بعدها - محاور المؤتمر. أي أن فكرة انعقاد المؤتمر تسبق المحاور التي تطرح - أو هذا هو المفروض - فكرة انعقاده ولأن القضايا - بضرورتها الملحة - تغيب عن أذهان المسئولين عن تلك المؤتمرات فإنها تواجه التأجيل حتي يقترب موعد نهاية العام المالي. فتتوالي بغزارة مدهشة بصرف النظر عن نوعية المحاور. الأهم هو انعقاد المؤتمر وليس ما يطرحه للمناقشة! من المهم ان تتحول أمانة مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم - في المرحلة المقبلة -من النشاط الموسمي المحدود إلي نشاط واسع ومتكامل علي مدي العام. كانت محدودية الهدف في مجرد اقامة مؤتمر سنوي يتضمن محورا وبعض القضايا التي يسهل مناقشتها في أي مؤتمر قاهري سببا في غياب معني تسمية "أدباء مصر في الأقاليم". أين الأقاليم في مؤتمر تقتصر مناقشة مشكلاته علي الهامش؟ أين قضايا العمل الثقافي في القري والكفور والنجوع؟ وكيف نعين المواهب علي العطاء. وعلي ما تستحقه من فرص النشر الحقيقة دون أن ندفعها إلي زيارات الإلحاح لهيئات النشر ووسائل الإعلام في العاصمة؟ لابد أن تجاوز الأمانة مهمة الإعداد لمؤتمر سنوي فتتحول إلي واسطة ايجابية بين قيادة الهيئة وأندية الأدب. بحيث تضع استراتيجية للعمل الثقافي. وتشرف - بالتعاون مع قيادة الهيئة والجهات الإدارية - علي تنفيذها. والنظر في نوعيات المحاضرات والندوات. ونوعيات المشاركين. فلا تخضع الأمور للسبهللة والمجاملات والسبوبة بالاضافة إلي حل كل ما تواجهه العلاقة بين الأدباء والإداريين مع مشكلات طارئة. موقع علي الإنترنت ينبغي كذلك أن تفيد الهيئة من الامكانيات الهائلة في تقديم الإبداعات وتبادل الخبرات من خلال موقع رئيس ومواقع أو عناوين فرعية تنتشر ليس في قصور وبيوت الثقافة وحدها. وإنما بين كل المتطلعين إلي فرصة التقديم أو المشورة أو الخدمة الثقافية. بصرف النظر عن مكان الممارسة إبداعا أو نقدا أو سؤالا أو مساءلة! القيمة التي تمثلها الإفادة من هذه الإمكانية - إن أحسن استخدامها - هي تجاوز مجرد تقديم المعلومات فيتحول الإنترنت إلي ورش إبداعية وفنية تسهم فيها وتثريها كل الطاقات المثقفة علي امتداد أقاليم مصر. أثق أن هذا الأسلوب الذي يمكن لهيئة قصور الثقافة أن تمارس أنشطتها من خلاله سيمثل بادرة مهمة وبداية للإفادة من المنجزات التقنية في تحقيق الهدف الذي كاد يدخل دائرة المستحيل: أن تصل الثقافة إلي كل القري المصرية. بعيدا عن البيروقراطية العقيمة. والوصاية. واعتماد الضجيج بديلا عن الفعل الإيجابي وغيرها من الظواهر التي تمثل عائقا أمام نهر الثقافة. أشبه بالعائق الذي تمثله الجنادل الستة في مجري النيل العظيم!