بالرغم من أن أوبرا عايدة تقدم سنوياً بنفس الانتاج منذ عدة سنوات إلا أن هذا العام كان لها اضافة هامة تتمثل في الإقبال الجماهيري الكبير الذي يرد علي المقولة الكاذبة أن فن الاوبرا للخاصة والمصريين لا يستسيغون هذا الفن.. بل أن اقبال الجماهير علي مدي 4 ليال متواصلة أثبت أن معرفتنا بهذا الفن تجاوز المائة عام وإذا كانت مصر منذ قرنين من الزمان كان لهذا الفضل في إخراج هذا العمل إلي النور وساهمت عالمياً في مسيرة فن الاوبرا الذي دعمته حينذاك بالمال فإننا الآن نكمل هذا الطريق عن طريق فرقتنا القومية.. العرض من اخراج الراحل عبدالمنعم كامل ونفذه د.عبدالله سعد وتصميم ديكور محمود حجاج وإضاءة ياسر شعلان وصوت خالد درويش وقاد الأوركسترا المايسترو الإيطالي ديفيد كريشينزي.. وأبورا عايدة احدي روائع الموسيقار الايطالي جوزيبي فيردي "1813 1901" وخطوة هامة في تطوره الفني فيها تجد كل ميزان اوبرا القرن التاسع عشر وابتكارات فيردي التي اصبحت سمات خاصة من جمال الألحان وقوة التعبير الدرامي وثراء الكتابة الاوركترالية والاهتمام بالصوت البشري كما أنها من حيث الصياغة المسرحية يمثل فيها التنوع فتجدها تتضمن الغنآء من داخل المسرح والغناء الجماعي علي المسرح والأغاني "الأريات" الفردية والثنائية والثلاثية الرائعة ورقصات البالية المختلفة والأهم من كل ذلك التباين في الأداء والتلوين الصوتي المعتبر درامياً كما أنه يتجلي فيها ايضا تأثره بفاجنر من حيث الألحان الدالة علي شخصيات العمل كما أن من أسباب انتشارها عالمياً أنها عمل استعراضي يعطي فرصة كبيرة لفناني المسرح للتألق من حيث الإخراج والديكور والإضاءة ولهذا يبقي الموسيقي وتنوع الرؤية في هذه المجالات. وعايدة ارتبطت بمصر منذ البداية حيث أن قصتها التي كتبها ماريبت باشا وكاميل دي لوكل وصاغها شعراً الإيطالي جيوفاني بوتشيني أشهر قادة ذلك الزمان وديكوراتها واكسسواراتها التي صنعت في باريس.. كل هذا كان بتكليف من الخديو إسماعيل وبأموال مصرية وقدمت لأول مرة في ابورا القاهرة في 24 ديسمبر عام 1874 ومنذ ذلك الحين وعبارات الكورال التي تمجد مصر تردد في كل مسارح العالم. ومع بداية الثورة عام 1952 وانشاء اكاديمية الفنون ودعم الفرق المصرية كان هناك الاهتمام بهذا العمل الذي احتضنه رواد فن الأوبرا مرة بعناصر مصرية في الستينيات بقيادة المايسترو الراحل يوسف السيسي الذي أتقنها لدرجة أنه كان يقودها بدون مدونة موسيقية وبدأ يلعب أدوارها الرئيسية الفنانون المصريون أميرة كامل وفيوليت مقار والفنان حسن كامي الذي كان له دور بارز ومازال في انتشارها جماهيراً في مصر عن طريق العروض السياحية المفتوحة التي نظمها في أواخر الثمانينيات والتي اكملتها بعد ذلك دار الاوبرا في التسعينيات بالأقصر والأهرامات وكان لذلك الفضل في ظهور جيل جديد من المنفذين والمساعدين ثم بعد ذلك المخرجين والمصممين لهذا العمل بالاضافة للجيل الغنائي والموسيقي الذي تم تكوينه علي مر السنين ليتوج كل ذلك بهذا العرض الذي يتم تقديمه سنوياً علي المسرح الكبير بدار الأوبرا وكان اعادة لنفس العرض الذي تم تقديمه في اوبرا بكين بالصين علي هامش الاولمبياد في صيف .2008 أوبرا عايدة تتكون من 4 فصول وهي قصة خيالية تدور أحداثها بأحد عصور التاريخ المصري القديم في مدينة منف حول الأسيرة الحبشية "عايدة" التي يقع في هواها "رادميس" قائد الجيش والتي تغرم به "أمينريس" ابنه الملك وبعد عودته منتصراً يكافئه والدها بإعلان زواجه منها ولكن ملك الحبشة "أمناصرو" والد عايدة الذي كان ضمن الأسري يطلب منها أن تعرف منه أحد الأسرار الحربية وتنجح في ذلك بعد صراع بين الحب والواجب وتكتشف "أمينريس" ذلك وتعلنه للكهنة الذين يقررون محاكمة "رادميس" والحكم عليه بالدفن حياً وتندم "أمينزيس" وتسعي لانقاذه بشرطه نسيانة لعايدة ولكن "رادميس" يصر علي الاستسلام للعقوبة ويفاجأ بعايدة داخل القبر الذي سوف يدفن فيه لتموت معه في نهاية مأساوية. والعرض الذي شاهدناه لم يخرج عن سياق القصة وإنما نفذها موسيقياً بحذافيرها المايستروا الايطالي كريشنزي حيث استطاع أن يحافظ علي التعبير الدرامي الموسيقي بشكل وجميل وذلك منذ الافتتاحية التي بناها "فيردي" علي لحنين أساسيين يرمزان للصراع الدرامي في القصة فهناك اللحن الذي يرمز للصراع الدرامي في القصة فهناك اللحن الذي يرمز لعايدة وبعد ذلك كان يعزف كلما ظهرت علي المسرح وهو لحن رقيق تؤديه آلات الكمان واليفولا أما اللحن الثاني فصار غليظاً يعبر عن الكهنة وتؤديه آلات التشيللو ثم يتصاعد ليؤديه الاوركسترا بكاملة.. ايضا تفوق الأداء الموسيقي في التعبيرات الدرامية المضادة التي يميل بها العمل مثل أرية "امناصرو" في مشهد النصر بالفصل الثاني وديامنيريس في الفصل الرابع كما نجح في اظهار الملامح المصرية التي حرص عليها "فيردي" والتي أدتها آلات الهارب وبعض آلات النفخ. من الناحية الاستعراضية كان الديكور بطلاً بلا منازع لدرجة أن الجمهور كان يصفق عندما تفتح الستارة وقبل ظهور أي مغن كما حدث في الفصل الثالث كما أنه تميز بالحداثة حيث كان يميل إلي التجريد ويركز علي الرمز مع الحرص علي الابهار وكان ذلك علي درجة عالية من التكنيك كما أن استعمال الاكسسوار استفاد من المعلومات الاثرية الحديثة فجاء بلا إسراف وموظف لخدمة الحدث وقد تجلي كل هذا الجمال في الفصل الرابع الذي حفل بالرموز من عنخ "مفتاح الحياة" الذي كان باب قبر رادميس والذي دفن فيه مع اعايدة والذي يعطي تعبيرآً عن خلود قصة حبهما وايضا في الاستعمال الحديث للزنزانة وفي هذين المشهدين تجلي تصميم الإضاءة المبتكرة والناجح للمهندس ياسر شعلان والذي ساهمت ألوانه وطريقة الاسقاط الضوئي مثل شعاع الشمس في اعطاء بعد رمزي للحدث الدرامي كما أن تصميم الملابس وألوانها كان لها دور إيجابي في هذا المضمار. أما الرؤية الإخراجية لعبد المنعم كامل فسيطرت عليها خبرته الكبيرة في عالم البالية فكانت الرقصات التي حفل بها العمل سواء التي كتبت أصلا في موسيقي فيردي أو التي أضيفت إلي العمل من أهم عناصر هذا الإبهار وأري أنها في المستقبل يمكن أن تجذب عشاق البالية لمشاهدة هذا العمل الذي نجحت أرمينا كامل في تصميم رقصاته وجاءت ايضا معبرة خاصة كورال الكهنة ورقصة الافتتاحية ايضا استثمار المجاميع علي المسرح وخاصة كورس الآلهة في الفصل الرابع وكومبارس الجنود في مشهد النصر.. أما باقي نجوم العرض وخاصة المصريين فقد تعدوا مرحلة التقييم حيث أن كورال الأوربا وقائدة فهموا العمل جيداً وأدوه أمانة وجمال لا يقل عن السبرانوا إيمان مصطفي التي تؤدي دور عايدة منذ ربع قرن وتعد مصدر فخر لنا وايضا رضا الوكيل في دور الكاهن رامفيس ومصطفي محمد في دور أمناصر وعبدالوهاب السيد في دور الملك والصوت الرائع جيهان فايد وزميلتها داليا فاروق في دور الكاهنة وهالة الشابوري في دور إمنيريس كل هؤلاء لهم جميعاً خبرة في هذه الأدوار وسبق أن شاهدناهم ولكن هناك شخصيتين يشاركان في العمل لأول مرة وهما الميتزوسبرانو المجتهدة جولي فيظي الي قامت بدور إمنيريس والتي نرحب بها حيث قدمت هذا الدور الصعب وهذه الشخصية المحورية بصوت وتمثيل جيد ومتميز أما الشخصية الثانية فكان عماد عادل الذي تبادل دور أمناصرو مع مصطفي محمد والذي جاء أداؤه طيباً ولكن مازال هذا الدور يحتاج اهتماماً من المخرج وتعميقاً للأداء الحركي والذي ينعكس علي الصورت لأن الأرية التي يوديها في مشهد النصر تعد من أجل ما كتب في التراث الأوبرالي لما تحمله من تباين درامي حيث يتحدث بفخر وكبرياء عن بلده ويتظاهر أنه ليس الملك ثم يتوجه للملك بطلب الرحمة والعفو ويتاقض بهما حيث يجتمع فيمها القوة والفخر وايضا الضعف والتظاهر بالخنوع والاستعطاف وطلب الرحمة.. شارك في العرض ثلاثة نجوم أجانب ساهموا بدون شك في اثرائه خاصة المغنية الصربية "دراجنا راداكوفيتش" التي تبدالت دور عايدة أما رادميس تم الاستعانة باثنين هما فنتشنز سارينللي وباولو لارديزون ولكن لماذا لا يكون هناك تينور مصري وأين وليد كريم الذي سبق له القيام بدور رادميس كما أن هناك أصواتاً تينور بدأت تظهر علي الساحة بعد طول غياب أن هم لماذا لا يحفظون هذا الدور الهام في ريبتوار التينور.. واخيراً العمل يتم تقديمه بصورة راقية وعلي درجة عالية من الاحتراف وبقي أن تسعي دار الأوبرا لتسويقة عالمياً حيث إنه يستحق أن يكون معبراً عن حضارتنا وعن حقنا التاريخي في هذا العرض..