تخطت البيوت المهجورة وانحرفت يسارا . مرت علي خمس حارات ضيقة ودخلت السادسة . عندما أخذها رفاعي لتري المدفن الذي اشتراه قالت له - مش عالوجهة ليه؟ ضحك رفاعي ووضع يده علي كتفها وهما يسيران باتجاه المدفن وقال - الواجهة مش لينا ياصديقة. حراقة علينا - يعني هايتدفن فيها أحسن مننا. انت مخبر قد الدنيا والكل بيعمل لك ألف حساب أبعدت يده الثقيلة من علي كتفها وهو يقول -عموما اللي بيموت مابيحسش مدفون فين في طريقها لزيارته تمر علي ترب الواجهة فتري السلالم المزايكو والبوابات الحديدية المغلقة بأقفال ضخمة وأشجار كبيرة تظللها وكأنما تحمي من بداخلها من الشمس وبرد الشتاء . عندما تصل الي تربهم تراها بلا أبواب . مجرد أسوار متوازية يفصل بينها ممرات ضيقة تتراص فيها العيون التي تشبه الشبابيك الصاج. فتدرك أن رفاعي كان علي حق. فهي الآن تعجز عن تدبير قسط المدفن . كانت "صديقة" تطلع علي زوجها في الشهر الأول لموته كل جمعة ثم منعتها الزيارات الكثيرة لجيرانه الموتي وصخب الأطفال اللحوحين من الاختلاء به والفضفضة معه . فاصبحت تزوره كل أربعاء لتجد نفسها في اغلب الأحوال بمفردها معه. ترمي حمولها عليه مثلما كانت تفعل قبل موته. تستشيره في كل الأمور ولا تفعل شيئا يخصها والبنات الثلاثة إلا بموافقته. فردت "صديقة" الحصيرة الصغيرة التي تأتي بها من البيت كل مرة ولمت ساقيها تحتها . أسندت رأسها علي جدار المدفن بعد أن فكت عقدة الطرحة السوداء. قالت له انها لم تنم الليلة وظلت طوال الليل تتطلع الي السماء المعتمة انتظارا لأول ضوء لتأتي اليه - قالت ان ما جاء بها اليوم الاثنين وليس الأربعاء أمر خطير لابد ان تستأذنه فيه. لاحظت حرامي الحلة وبعض الديدان تحوم حولها فكنستهم بفردة الشبشب وقذفتهم بعيدا بطول يدها. فلم تعد الحشرات الغريبة التي تزحف باتجاهه كلما جاءت تفزعها مثلما كانت في أول موته. قالت له ان بعض الناس يسخرون منها والبعض يأخذونها علي قدر عقلها ويظنونها مجنونة عندما تقول انه ينتظرها كل زيارة ويجلس بجوارها علي الحصيرة يسمع لها ويشور عليها . ظلت تلف وتدور تبحث عن شجاعة مصارحته بما جاءت من اجله. فحكت قصة الشيخ عيد إمام الجامع الذي غطس في الترعة ليتوضأ للفجر فجرفه التيار وظلوا يومين يبحثون عنه تحت الماء وينتظرون أن تقب جثته حتي وجدوه . الغريب ان الشيخ كانت فيه الروح وعاد ليؤم الناس في الزاوية ويغطس في الترعة. ذكرته في زهو أنها كانت تميز صوت الرصاص الخارج من طبنجته الميري وكانت تعرف انها ستسمع الترحيب به وستضرب الفرقة سلاما خاصا للحكومة احتراما لوجوده. كانت تتباهي بان مأمور القسم ذات نفسه ينيبه في الأفراح والمآتم . كان الجميع يعرفون انه ليس له في قعدات الحشيش والشم ومزاجه الوحيد في الأكل. وقبل انتهائه من العشاء يكون مناب البنات وأمهم قد سبقه الي البيت. فخدة لحم او صينية حمام محشو بعددهن . الآن أصبح الحال ضيقا فالمعاش قليل لكنها مستورة والحمد لله.ضحكت وهي تخبره انها استدرجت الولد اسماعيل ابن صاحب المطحن الذي يسير وراءها منذ أن مات الي السوق وجرسته أمام الناس وقالت له بالحرف الواحد. هي اللي تنام جنب راجل زي رفاعي تبص لواحد زيك ثم استجارت بالناس - ياناس لو رفاعي عايش كان اللمامة ده يتجرأ علي مراته اختفي الولد ولم تره بعدها أبدا. اكتشفت "صديقة " انها حكت له كل ذلك بالتفصيل في زيارات سابقة ولابد أن تقول له ماجاءت من أجله. . تعرف ان روحه عالقة ببناته وكان يحلم بتعليمهن وتزويجهن زيجات محترمة . فكيف تخبره أنها تريد منع البنت الكبري من المدرسة! فقد حاضت البنت بالأمس فأصيبت هي بالرعب. البنت فارت في يوم وليلة . ورثت عنه طوله وامتلاء الوجه والجسد ولا يصدق احد انها لاتزال طفلة لم تكمل الرابعة عشرة والأيام تغيرت ورفاعي ليس موجودا ليحميها والمسافة بين البيت والمدرسة طويلة تركب لها البنت مواصلتين. ظل الكلام ملتصقا بلسانها تبحث عن شجاعة قوله - سلمي مش هاتروح المدرسة تاني . قلبي واجعني لاحظت سحلية تدخل شرخا صغيرا في جدار المقبرة المواجهة . سمعت صوتا قادما باتجاهه يسألها - بتعملي ايه هنا ياصديقة؟ نظرت خلفها وجدته عبد الموجود التربي قالت - باقرا الفاتحة لرفاعي - دي مش تربة رفاعي. دي فاضية لسا ماحدش سكنها. تربتكم في الحارة اللي جاية فزت واقفة وضعت قدميها في الشيشب وهي تعدل طرحتها وهرولت مرتبكة. تاركة الحصيرة مفرودة .عندما أصبحت أمام حارة رفاعي وقفت قليلا تنظر باتجاه التربة ثم أكملت طريقها عائدة الي البيت.