في خضم الحراك الإبداعي يطالعنا أحد شعراء الصدارة. الشاعر الطبيب فتوح قهوة في ديوانه الجديد "هذه لغتي" واصراره علي تعريف الخبر "لغتي" باسم الإشارة يفيد اختصاصه وحده بهذه اللغة المتنامية فنيا. حيث تكشف آلياته الأدبية الرفيعة عن شاعر يتحرش بالدلالة دون أن يفقدها حمرة الخجل. وتتخلق القصيدة عبر مطارحاته الجمالية أنثي ترسم ببهاء محياها خطوطا نورانية علي خدود الليل. وفي رأينا أن قصائد الشاعر تنفتح مع القراءة التي تباشر النصية بفلسفة الفن وماهية العلم وجوهرية الإبداع. وتستغلق امام من يطارحها بالأدوات التقليدية المستهلكة. حيث تحتاج من يروض سياقاتها وفق فلسفية إبداعية واعية بجماليات الطرح ومساحات التصوير. وحتي لا أوغل بالقارئ في عمق التفاصيل النقدية والأكاديمية. سأنتخب ما تدهشنا به شاعرية فتوح قهوة في قصيدة "صلوات الصمت" في هذه اللوحة الفنية العالية التي تستوعب درامية الشعور الرومانسي الساحر في قول حبيبته له: وأنا حيالك قبلة/ سجد الضياء علي معابدها سنا/ وثوي الرحيق بطاهر النفحات/ فأطل سكوتك ساعة/ إن السكوت.. عبادة النبضات. تخلع الصورة علي المشهد ألفاظا قدسية مسكونة بالمهابة والجلال. فالقبلة التي تعنيها العاشقة هي العالم الوجودي الذي يجتلي فيه الشاعر ذاته طهرا وصفاء. حيث اقام الضياء إقامة أبدية في رحاب المعابد نشوة وأريحية. الصورة تخلق فراديس جمالية شاطحة في آماد الفن المترامية. السجود يعني الامتثال النوراني التام لمصدر الاستضاءة والألق. وهو ما أهل الرحيق للنوم في وداعة وسكون متلذذا بأحضان طيب الأريج وتفاوح نفحاته. وفي تصورنا ان اللوحة لا تربطها بالإبداع علاقة أيدولوجية فحسب. وإنما تربطها به وحدة سيولوجية عميقة. آية ذلك ان تطلب الحبيبة من الشاعر صمت الكلمات تمهيدا لتشغيل المدركات الحسية والشعورية في هذا الجو الرومانسي الحالم. لاستيجاد حالة التعاشق الروحي والتلامس الوجداني. ثم تتأنق فنية الصورة في جعل الصمت عبادة روحانية شفيفة تفعل من رهف النبض وودادة الحس وتهامس العواطف. وفي اتخاذ حروف الهمس السين والتاء والهاء والحاء وتكرارها علي طاولة البناء النصي ما يعكس حالة من الانسيابية الإيقاعية والهدوء اللحني الذي يوازي سلام الموقف العاطفي ونعومة الحالة الوجدانية المتوحدة. كما يعرب عن قضية سيكولوجية تري في الحب سر وجودها. وفلي تقديرنا ان فتوح قهوة في هذه المناورة الجمالية يفصح عن نفسه في ضوء استجابته لوعي شعري متوهج يطرح منظورا يفرز جدلية فنية في الايقاع والصورة والطاقة اللغوية بشكل عام. مضطلعا بدور البستاني الذي يستولد من تلاقح الأجناس صنفا نباتيا جديدا يستزرعه في أرض الفن عودا طريا يستوي علي سوقه دوحة شعرية رطيبة النسمات رخية الظلال. د. علي إسماعيل درويش