فاروق شوشة شاعر متفرد, أمضي عمره الخصب في امتياح ينابيع الشعر من أجمل وأعذب آبارها الصافية, يسقي وجدان مستمعيه وقرائه بأعذب نبراتها, كما تتجلي في مختاراته وإبداعاته. أصدر قرابة خمسة وعشرين ديوانا للكبار والصغار, إلي جانب عشرات المختارات والدراسات الوضيئة, لكن الخاصية المميزة له هي ارتباطه المبكر والحميم بأدوات التواصل الجمالي بالصوت والصورة في وسائل الإعلام, مما يجعله يكتسب حساسية فائقة تجاه عمليات التمثيل اللغوي بإيقاعاتها الموسيقية, وكفاءتها في تشكيل الوعي المحدث بالصورة, وتكوين المخيال, وإمكانية تجسيد التجارب في أشكال منظورة. كل ذلك أتاح له فرصة ابتكار تقنيات شعرية محدثة, برؤية فنية جديدة. فأصدر أخيرا مجموعة مما أسماه لوحات شعرية بعنوان وجوه في الذاكرة وكأنه يغمز الشعراء الذين يهجرون الشعر الي الرسم ليقول لهم ارسموا بالشعر لوحاتكم. يقدم صاحبنا نوعا جديدا من القصائد المجسدة لصور شخصية لنماذج بشرية, مما درج الفنانون علي تسميته بورتريه تتوافر لها عناصر فنية مركبة وعديدة, لم يسبق لشاعر عربي فيما أعلم أن وصفها بهذا الإتقان سوي الشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح عندما أصدر في الأعوام الأخيرة مجلدين بعنوان الأصدقاء, غير أن فاروق شوشة لا يقدم أصدقاءه في الوجوه التي يتذكرها فحسب, بل يقدم أنماطا مختلفة لمن أثاروا انتباهه وتأمله واخترقوا ذاكرته عبر السنوات التي انقضت من عمره, مؤثرا أن يحتفظ لنفسه بأسمائهم, نتيجة لأنه لا يتوقف كما فعل المقالح عند مآثرهم وخصالهم الحميدة, بل يجسد خواصهم الإنسانية بكل مافيها من قوة وضعف وخير وشر, الأمر الذي يثير فضولا مسبقا لدي القاريء لا تشبعه القراءة, فيضفي لمسة إبهام وتعميم شائق, تجعل التمثيل الجمالي ينتقل من مجال التوثيق إلي التحليق الفني المفتوح علي المعني الإنساني. مرايا الذات وإذا كان شاعرنا حريصا علي رسم الملامح الحسية والسمات النفسية لنموذجه بدقة تشكيلية عالية, فأنه يقدم رؤية كلية للشخصية منذ منابتها حتي مصيرها الأخير في وعيه, مما يجعلها مرتبطة دائما بحبل سري يصلها بذات الشاعر وصميم شجونه, وكأنه يتراءي في شخوصه بقدر ما ينظرهم ويبوح بأسرارهم, بذلك تصبح الصورة سيرة الذات التي تتجلي في رؤيتها للآخرين. يكشف مثلا كنوزه الشعرية المكنونة لشخصيته قائلا عن صديق طفولته الذي قاسمه زاده المعرفي ثم انفصل: مكتبتي الأولي/ كانت بعض الفيض الهامي من حسناته ديوان الملاح التائه/ ديوان الجارم بعض بلاغات الزيات وترجمة مذهلة تحمل آلام فرتر ورفاييل ودريني خشبة مشغولا بالإلياذة والأديسة ومن الراديو في مقهي القرية/ يستوقفنا صوت الموسيقار الأعظم طه حسين/ نخضع للصوت معا/ ولهذي المنحة من سحر العربية ننجذب معا. وأحسب أن فاروق شوشة يرسم بهذا صورة لأبناء جيله كلهم, فلا يكادون يختلفون عنه إلا في الأمر اليسير مثل ذكر الشوقيات, لكنه يبرز فيها أهم العروق التي حددت جهازه الفني شخصيا, في تأصيل الحس الرومانسي الفائق, والوعي الملحمي المبكر, والفتنة المشغوفة بإيقاع اللغة وسحر الكلمات. علي ان هذه القصائد السردية تتركز بؤرتها في لحظة التحول مثل القصة القصيدة المفعمة بالكثافة الشعرية. فهو يحكي بلفتات محكمة قصة صديقه رجل الأعمال: كنا نتهاتف أحيانا/ كي نقطع صمتا طال أو ينجد واحدنا صاحبه بمصاب حل/ كرحيل صديق ساعتها يجمعنا وقت وطريق عزاء/ نجلس محزونين/ كئيبين كأننا أخطأنا في حسن الميت/ حين تركناه يواجه لحظته/ وشغلنا عنه ثم يتبع صاحبه وهو يتملص من محاولة تجديد المودة معتذرا بشواغله العملية وعالمه المشحون بالصفقات والمكاسب, وينتهي بعد نقده لسلوك صديقه الي التساؤل عن حقيقة موقفه, هل يدينه لأنه مضي لفضاء أوسع منه, وحقق ما عجز هو عن نيله, أم أنهما استهلا ليلتهما بغرار صديق غاب وختماها بعزاء النفس عن مسيرة عمر في رؤية كلية للحياة. الصور السردية إذا كانت شعرية هذه القصائد تشق عذوبتها من المواجد واللحظات المكثفة واللفتات الحيوية لتفاصيل العلاقات والمشاعر فإن نوعية الصور الموظفة فيها درامية وليست غنائية. من هنا فهي قصائد مغايرة, تقدم فنا شعريا سرديا مجسدا مرسوما بأبعاد مختلفة, وإذا كان علماء الشعرية يرون تناقضا بين محور السرد ومحور الغناء فإن الجمع بينهما يتطلب درجة عالية من التوهج نراها في كثير من مشاهد فاروق شوشة, يقول مثلا عن صبية مشاكسة: مازلت حتي الآن أذكرها/ تلك الصبية قرب سن تكور النهدين قرب تأرجح الردفين/ قرب تشكل الجسد الصغير وصنعة الخراط حين يبدع في تشكلها فتاة ساحرة وكانت تشاكسنا بما امتلكت/ من اللفتات والنظرات والإغواء والسير الموقع في اهتزاز/ يخطف البصر المحدق في الزوايا الفائرة ولا يكاد يخلو نموذج من هذه اللوحات من صور سردية مجسدة للأشكال والمواقف واللحظات الكاشفة عن الفضاءات التي تقلب فيها الشاعر في أروقة الإعلام المسموع والمرئي, وفي دهاليز الحياة الفنية التي يعرف أسرارها ودقائق تفاصيلها بشكل لم يتح لغيره, وفي ثنايا الحياة الثقافية والإبداعية العريضة, ومن قبل كل ذلك في الحياة الفردية التي تترسب في أعماق المبدعين وتظل من أخطر خبيئاتهم الوجدانية. علي أن أبرز ما يستحق التأمل في بنية هذه القصائد هو نسق تركيبها وكيفية استهلالها ونقطة ختامها, الي جانب النسيج الموسيقي والتصويري الملتئم في خلاياها, وهو ما يضيق به المقام ولا يتسع لتحليله, فتظل القراءة الممعنة في التذوق هي الوسيلة المثلي لاستجلاء طبيعة هذه التجربة الفاتحة لنسق جدير بالحفاوة من الشعرية العربية الخلاقة.