حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حولنا إبداع المرأة إلى نميمة‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 01 - 10 - 2010

شاعرنا الكبير‏..‏ فاروق شوشة (1936)‏ من أصعب الشخصيات التى تعثر فيها قلمى‏..‏ فاللمرة الأولى أكتب باعتزاز وفخر شديدين عن أحد أساتذتى فى كلية الإعلام‏..‏ وللقصة جذور. فقد كان صوته الرخيم البليغ بكل حماسه وعنفوانه واقتداره يقتحم وجداني يوميا في سنوات التكوين عبر برنامجه البديع لغتنا الجميلة وتحول الأمر من كونه زادا ثقافيا ليصبح منارا هاديا في مرحلة الاختيار والبحث عن المسار‏,‏ وقررت الالتحاق بكلية الإعلام التماسا للاستزادة من علمه وتعلقا بالعربية التي علمنا عشقها‏,‏ واعتقد أن شأني كان شأن الآلاف مثلي الذين استقطبهم بأدائه الفريد وهو يطوف بنا في دروب التراث يتذوق الكلمة ويطعمها لنا وينثر عطر اللغة ومفاتنها ويستقطر حكمة الحياة في بيت شعر ي يصل بساميعيه إلي حالة النشوة الشعرية التي يصعب تلمسها في هذا الزمان‏..‏ وهو في كل ما يكتب من أشعار ودراسات ومقالات حريصا علي الاحتفاظ بهويته‏..‏ فاروق شوشة قيثارة الإذاعة وكروانها مفكرا عميقا من أبرز حماة اللغة والساهرين علي خزائنها وحراسها ممن يريدون تقطيع أوصالها من خلال دوره كأمين عام للمجمع اللغوي‏..‏ يتمتع بثقافة إنسانية عميقة‏,‏ وصفه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بأنه وزارة ثقافة قائمة بذاتها‏,‏ وحرصه الدائم علي وجود جسور اللغة المشتركة بين الأجيال يدفعه دوما للتجديد‏,‏ لذلك فهو دائم التوهج يرسل أشعته الموحية علي مريديه فينقلهم إلي عوالم وأزمنة سحيقة لكنه يعود بهم مرة أخري للواقع مشغول البال بتجديد نهر إبداعه الذي جسده في‏16‏ ديوانا شعريا‏.‏ جهارته بخبيئة قلبه تتجلي في معظم أشعاره‏,‏ لديه شبه يقين أن الحرمان أيا كان من شروط الإبداع وقد اختار العزوف عن صخب الحياة الاجتماعية‏..‏ أستاذي الجليل مهابته مكتسبة من علمه‏..‏ ملامح وجهه تكسوها مسحة من الحزن واستقطار الحزن يطهر النفس‏..‏ والقاعدة أنه كلما زادت المعرفة زادت الأحزان والأشعار أيضا‏.‏
ما بين شجرة الزيتون العتيقة التي اتخذتها منزلا في سنوات الطفولة الغضة وبين ديوانك الشعري الأخير وجوه في الذاكرة مسيرة حياة حافلة بالإبداع والفكر وهموم العصر فمتي تطايرت شرارة الموهبة؟
يجيب بهدوء وكأنه يحنو علي ذكرياته‏:‏ في العاشرة من العمر بدأت تتفتح المدارك ويتسع الأفق رويدا رويدا فأنا من قرية الشعراء وهي إحدي قري محافظة دمياط وقد سميت بهذا الاسم لأنها كانت تضم معظم شعراء السير الشعبية والربابة كانت كلماتهم سهاما موجهة ضد الصليبيين لبث روح المقاومة والحماسة في نفوس الأهالي الذين اسروا لويس التاسع في المنصورة‏..‏ كنا أطفالا صغارا نسترق السمع في المقاهي لسماع صوت طه حسين البليغ المحمل بأريج الثقافة العربية الأصيلة والنسمات الأوروبية كان صوته الهادي الوقور وطريقته في الإلقاء والكلام في برنامج حديث الأربعاء بالإذاعة من أهم العوامل التي صقلت موهبتي السمعية‏,‏ وظل صوته طويلا كامنا في أعماقي وحين حصلت علي شهادة التوجيهية عام‏1952‏ قررت الالتحاق بكلية الآداب‏(‏ جامعة فؤاد الأول‏)‏ قسم اللغة العربية لكي أنعم بسماع محاضراته الإبداعية كنت الأبن الأول في عائلة مكونة من عشرة أبناء خمسة صبيان وخمس بنات‏,‏ وبحكم أن الوالد كان معلما للغة العربية وشاعرا لا يعلن عن نفسه فقد كان من الميسر قراءة ديوان الشوقيات لأحمد شوقي ومجلة الرسالة الشهيرة وغيرها من المجلات الأدبية في مكتبته الصغيرة وكانت موجات الإرسال جيدة وقوية لأنني حفظت القرآن في الخامسة في كتاب القرية الأمر الذي أكسبني الضبط المحكم لمخارج الكلمات والألفاظ وبعد تقديم أوراقي في كلية الآداب أرسل إلي والدي يطلب مني الالتحاق بكلية دار العلوم لأنها أعلنت في الصحف عن قبول دفعة جديدة من حملة التوجيهية لا الأزهر فقط للمرة الأولي وامتثلت لرغبة والدي وأنا ابكي حزنا علي حرماني من تحقيق حلمي في الاستمتاع بدراسة الآداب العربية وهكذا التحقت بالجامعة وأنا في السادسة عشر في عام الثورة وفي نفس العمر كتبت مسرحية شعرية وأهديتها لوالد أول حبيبة وحرصت علي وضع صورتي في الكتاب لكي يستمر هذا الوصال الروحي بهذه الحيلة بعيدا عن أعين الرقباء فحب اللغة جاء مبكرا واستحال إلي عشق عام لكل ما يتصل بها وخاصة الشعر وبدأت الفيوضات تتوالي من ديوان لآخر‏.‏
علمت أنك من تلاميذ العالم الإسلامي الجليل سيد قطب فكيف كانت صلته الأكاديمية بالجامعة ودار العلوم آنذاك؟
حين أعلنت دار العلوم عن قبول هذه الدفعة لم يكن عددنا يتجاوز‏(40‏ طالبا‏)‏ بين‏300‏ طالب أزهري لذلك قرر عميد الكلية آنذاك الدكتور إبراهيم اللبان أستاذ الفلسفة الإسلامية أن يقوم بعملية تناغم بين طلبة التوجيهية الوافدين وبين طلبة الأزهر فاستعان بسيد قطب ليسد الفراغ لدي الأغلبية في علاقتهم بالقرآن وتفسيره وكنا أول من حصد ثمار محاضراته في تفسير القرآن والتي أصدرها فيما بعد في ثلاثين جزءا وسماها في ظلال القرآن وتعلو وجه الأستاذ فاروق ابتسامة الامتنان لأحد أساتذته ويضيف‏:‏ لم يكن الرجل عالما فقط ولكنه كان شاعرا متصوفا عيناه في السماء يتكلم لغة لا علاقة له بعلم التفسير القرآني بالشكل المنهجي وبدأ معنا بسورة البقرة وكان إذا شرح سورة الضحي يقول مثلا‏:‏ والضحي والليل إذا سجي انظروا ظلال الرحمة تتساقط كغلالة من السماء والكون عندما يهدأ والأنفاس عندما تنام كان ينطق شعرا في هذا التخصص الجليل الذي أثر أن يسميه في ظلال القرآن كما لو كان يجلس تحت شجرة وارفة تجود عليه بهذه الثمرات التفسيرية واستمر معنا عامين قبل أن يصطبغ فكره سياسيا وينخرط بعمق مع الاخوان المسلمين ويكفر المجتمع بأكمله ويصفه بالجاهلية في مؤلفاته‏.‏
استقطبك أثير الإذاعة في أوج تألقها قبل أن يزاحمها التليفزيون فكيف تقيم الآن تجربتك الإذاعية التي امتدت عقودا ارتقيت خلالها منصب رئيس الإذاعة؟
قد تندهشين إذا علمت أنني لم أحدد هذا المسار الإذاعي مسبقا ولم يكن في الحسبان فبعد حصولي علي الشهادة الجامعية من كلية دار العلوم التحقت بكلية التربية لمدة عام لأنني كنت أهوي التدريس ونجحت في اختبار البعثة وكان من المقرر أن أسافر إلي أوروبا وقابلني أحد الزملاء وكان ترتيبه في البعثة في المرتبة الثانية بعدي مباشرة وأخبرني أنه سيتقدم للإذاعة لاجتياز اختبارات المذيعين الجدد وحثني علي أن أحذو حذوه وضحكت الأقدار كما يحدث عادة فنجحت في الامتحان‏,‏ وهو رسب وسافر إلي الخارج في بعثته أي تبادلنا الأدوار وأستمريت بالإذاعة من‏1958‏ إلي‏1963‏ مذيعا بالبرنامج العام ثم سافرت إلي الكويت لمدة عام لتدريب المذيعين واعتز كثيرا بأنني عملت بالبرنامج الثاني عام‏1958‏ لمدة أربع سنوات بدون قرار إداري ودون التفكير في طلب أي مكافأة بل أنني كنت أقوم بذلك العمل طواعية في عهد الإعلامي الكبير سعد لبيب رئيس البرنامج الثاني آنذاك كنت مبهورا ومأخوذا بمحتواه الفكري والثقافي يملؤني الحماس والاعتزاز بالعمل مع كوكبة من ألمع نجوم الأدب والفن والفكر فعملت مع الفنان القدير محمود مرسي الذي كان يعمل مخرجا وكانت أقصي أحلامي أن أكون مساعدا له أرتب له الاسطوانات والشرائط لأنني كنت اعتبر هذا البرنامج هو جامعتي الحقيقية التي تعلمت فيها من الزملاء وأنا مدين لهذه السنوات الأربع بتأسيسي إذاعيا وإعلاميا ودعم اهتماماتي الأدبية والشعرية وفي البرنامج العام قدمت عشرات البرامج وفي عام‏1959‏ كان نجيب محفوظ هو ضيف أول حلقة من برنامجي مع الأدباء وذهبت إليه في مجلسه بكازينو الأوبرا وسألني لماذا وقع الاختيار عليه ولم أذهب للعقاد أو طه حسين مثلا‏..‏ فقلت له‏:‏ أنني قادم للمستقبل وأسعدته أسئلتي بالرغم من حداثة عمري 23‏ عاما وقال لابد من كتابة الإجابة لا أستطيع ذلك أمام الميكروفون واتفق معي علي قراءتها دون أن تبدو أنها معدة سلفا لتبدو طازجة مرتجلة‏..‏ كنت أعمل وأقيم بالإذاعة ما يقرب من‏24‏ ساعة يوميا أعيش مع شقيقتي‏..‏ متفرغا لعملي وانهمكت تماما حتي قابلني بالصدفة د‏.‏ علي الراعي وكان ضيفي في ندوة من الندوات مع د‏.‏ لطيفة الزيات فجلس بجواري في استراحة الإذاعة وباغتني قائلا‏:‏ يبدو أنك انغمست في مهنة التفاهات اللذيذة تلك الحياة التي تعج بالندوات والتليفونات والمعجبات والرسائل أنك تذكرني بشبابي يا ابني كنت مثلك كبيرا للمذيعين بالإذاعة ولكن حين أعلنت الجامعة عن البعثات الدراسية انتشلت نفسي وذهبت إلي أنجلترا وحصلت علي الدكتوراه عن برناردشو‏..‏ فالتفاهات اللذيذة لن تترك لك مجالا أنت خلقت عن جدارة للكتابة والإبداع‏..‏ لا الاكتفاء بالبرامج والندوات وقراءة الشعر‏..‏ وكانت النصيحة غالية صادقة ملهمة‏..‏ أمدتني بشحنة ضوئية كاشفة للدرب المنشود وصحوت من غفوتي واكتشفت أن كتابتي الشعرية تأخرت لذلك صدر أول دواويني إلي مسافرة عام‏1966..‏ فلم أكن محتاجا لحالة شعرية لكي أنتج أشعاري‏..‏ لأنني كنت ممتلئا بقراءة أشعار الآخرين‏.‏
وماذا عن برنامجك البديع لغتنا الجميلة‏..‏ كيف ولدت الفكرة وهذا القالب الإذاعي الجذاب الذي مازال مستمرا لأكثر من أربعين عاما ؟
منذ إلتحاقي بالإذاعة عام‏1958‏ وأنا أطلب من المسئولين تقديم برنامج مختص عن التراث العربي‏..‏ كنت أريد أن أقرأ مع المستمع كنوزنا الشعرية وأعرض الحيثيات الجمالية والشعرية في بعض القصائد للارتقاء بالذائقة الأدبية للمستمعين‏..‏ فالشعر ضرورة لإعادة توازننا من براثن هذه الحياة المادية الصرفة‏..‏ وكان الرد يجئ أنها فكرة جافة‏..‏ ووقعت هزيمة‏1967‏ وأنهار الحلم وساد رأي يقول اننا هزمنا لأننا أبتعدنا عن الأصول والقيم ونحن بحاجة للرجوع إلي الوراء بحثا عن جذورنا لتستقيم حياتنا مرة أخري ونعيد للناس الثقة في ثقافتهم العربية وكلفني بابا شارو وكان مديرا للبرامج العربية الإذاعة‏..‏ وحرصت من البداية علي ألا يكون تعليميا واستقر البرنامج اسما وموضوعا وكان من المقرر أن يستمر شهرا ثم دورة إذاعية واحدة لمدة ثلاث شهور لكنه استمر حتي الآن وأعتقد أن وراء نجاحه عشرات الأسباب أولها الإصرار والصدق والتفرغ للفكرة وبلورتها وإعدادها بعد دراسة متأنية‏..‏ فنجاح البرنامج يتكئ علي يقين ذاتي بأن اللغة كائن حي‏..‏ ليس مقطوعا البتة عن التراث ولكنها لغة موصولة حتي باللغة العصرية التي تتسم بالجمل القصيرة والفواصل‏..‏ ووفقني الله باختيار الموسيقي التصويرية التي اشتهر بها البرنامج والتي حصلت عليها من تسجيلات فرقة أرمينية جاءت إلي مصر لأنني كنت أريد الابتعاد عن الموسيقي الشرقية تماما فكانت المقطوعة محملة بثقافات إسلامية قوقازية روحها شرقية في قالب من الهارمونية الحديثة لكي لا يبدو البرنامج عتيقا وجاءت الفواصل أيضا موفقة تماما ووقع اختياري علي مقطع من أغنية فيروز للرحبانية تعزف فيه الموسيقي بدون كلمات‏..‏ لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا‏..‏ قصتنا القديمة شلحها الهوا‏..‏ وصرت عني بعيد وكان رياض السنباطي يعاتبني بود قائلا‏:‏ ألم تجد في كل موسيقانا إلا هذا المقطع‏..‏ لكنه كان اختيارا موفقا تماما لأن الموسيقي التصويرية هي التي تهيئ الأجواء لاستقبال الرسالة الإعلامية‏..‏ ووقع الاختيار علي صفية المهندس لتقول بيت الشعر بصوتها الأنثوي الدافئ الذي يتحدث عن اللغة العربية وكانت أول مرة تلقي شعرا أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي‏...‏ وأصبح هذا البيت أشهر من نار علي علم في كل الإذاعات العربية فكلنا غواصون كل بطريقة والطريف أنني كنت أتقاضي‏27‏ جنيها بعد الضرائب عن ثلاثين حلقة أي أن أجري في الحلقة كان تسعين قرشا‏..‏ وأنا أعكف الآن علي طباعة حلقات البرنامج وبدأت فعليا في تنفيذ هذا المشروع الضخم لحفظ التراث‏.‏
تقوم إسرائيل الآن بتدريس اللغة العربية في مدارسها وبصفتك أمين عام المجمع اللغوي ما هو موقفك من الوضع الذي آلت إليه لغة الضاد من ترد وإهمال في عقر دارها ؟
ربما لا يعلم الكثيرون أن إسرائيل لديها مجمعا للغة العربية‏..‏ لا علاقة له بالمجمع الفلسطيني في غزة الذي له مراسل ويشاركون في مؤتمراتنا السنوية‏..‏ أما المجمع الإسرائيلي‏..‏ فيهدف لتدريس اللغة العربية في إسرائيل لتشجيع حركة الترجمة كجزء من نزعتهم العدوانية التي تستهدف السيطرة علي العالم العربي وفض مغاليقه ودس بعض العناصر بين العرب ولم تجد إسرائيل سبيلا أفضل من ترجمة أدب نجيب محفوظ إلي العبرية لكي يجسد لهم الصورة الحقيقية للمجتمع المصري بكل أطيافه وتجلياته الاجتماعية وأرسلوا ناقدهم الشهير ساسون سوميخ كثيرا لهذا الشأن وتقابل مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس‏..‏ لكننا في المجمع رفضنا تماما التعاون معهم حيث حاولوا الاتصال بنا مرارا عن طريق الخارجية والمشكلة الأساسية في تعليم اللغة العربية في مصر تعود للأسلوب والنهج وهو متخلف بكل المقاييس فهو ليس مواكبا للأساليب السمعية والبصرية التي تنتهجها اللغات الأجنبية فالطالب يجب أن ينتقل من الحاضر المعلوم الذي يتمثل في الشعراء المعاصرين وكتابات وروايات كبار الكتاب ثم نعود القهقري إلي التراث لكي نطلعهم علي تراثهم وتاريخ هذه اللغة‏..‏ فمن الخطأ أن نبدأ بالشعر الجاهلي والبيئة الصحراوية ولم يعد لها وجود والمجمع له أبحاث وتوصيات عديدة ولا يتواني عن تسجيل كل جديد في اللغة وإجازته‏..‏ وقد استفدت من تجربتي الشعرية لأن الشاعر أبو اللغة‏,‏ وقام المجمع بعمل دراسة وصفية بالاشتراك مع الجامعة الأمريكية وأساتذة وخبراء أوروبيين وأمريكيين لتوصيف العربية المعاصرة وجمعنا مقالات الصحف وأعمال الروائيين الكبار مثل نجيب محفوظ ويوسف أدريس وعشرات الأعمال الأخري‏..‏ وأدخلنا كل ذلك في الكمبيوتر لعمل ميزان يمثل اللغة العصرية وكانت النتيجة العلمية أن أسلوب أنيس منصور يمثل اللغة العصرية في مصر لأنه أسلوب سريع الإيقاع‏..‏ جمله قصيرة يستعين بالمفردة البسيطة التي لا يتوقف عندها القارئ لأنه يفهمها لكنها عميقة ومحملة بالمعاني والدلالات والثقافات‏.‏
لماذا يأتي حديثك عن التليفزيون دائما مفعما بالمرارة بالرغم من طول المعاشرة والنجاح الذي أصبته ؟
بدأت العمل بالتليفزيون عام‏1965‏ في عهد همت مصطفي حين كانت رئيسة للقناة الثانية وصلاح زكي رئيسا للقناة الأولي وقدمت أول فواصل شعرية مصورة في تاريخ التليفزيون بين الفقرات وقدمت برنامج دنيا ودين والذي استضفت فيه الدكتورة بنت الشاطئ وكانت تقف موقفا هجوميا إزاء رسالة الدكتوراه التي حصل عليها أحد الوزراء وكانت تحتمي بالأهرام في تلك الحملة‏..‏ وتري أن الرسالة كتبت بثلاثة أساليب مختلفة‏..‏ أي اشترك فيها أشخاص آخرون وتصادف أن شاهد هذا الوزير تلك الحلقة وكانت له سطوة علي التليفزيون بحكم منصبه وصدر قرار سري بعدم استضافة بنت الشاطئ مرة أخري وتوقف البرنامج ولم أعرف السبب الحقيقي إلا بعد عشر سنين بالمصادفة من مدير مكتب رئيس التليفزيون وقدمت الأمسية الثقافية عام‏1970‏ والتي استمرت‏37‏ عاما حتي‏2007‏ واستضافت جميع رموز الأدب والفكر في مصر والعالم العربي من أصغر أديب لأكبرهم واكتشفت بالمصادفة أن البرنامج يذاع الساعة الثالثة صباحا ففهمت الرسالة وقدمت أعتذارا عن تقديمه‏..‏ ويكفي أن التسجيل الوحيد الموجود لأمل دنقل كان من تسجيلات الأمسية حيث أخرجته أسرة البرنامج من معهد الأورام وسجلنا معه في التليفزيون دون علم الأطباء‏..‏ وفوجئت أن حلقات البرنامج التي سجلتها من صالون توفيق الحكيم في الأهرام مع كبار الكتاب في عيد ميلاده تم مسحها بالكامل‏..‏ وكانت القاعدة في ماسبيرو أن البرامج الثقافية والحوارات يتم مسحها لتسجيل المباريات الرياضية وقد أضطررنا في عهد تماضر توفيق لاستعادة التسجيل الوحيد لطه حسين من تليفزيون الأردن وسألناهم عن المقابل فكان الرد بمثابة صفعة تلقتها تماضر توفيق‏:‏ لا شئ‏.‏ ولكن نتمني أن تحافظوا علي هذا الشريط النادر ولا تمسحوه مرة أخري‏!!‏ وبالرغم من أنني عملت أكثر من أربعين عاما إلا أنني لم يتم تكريمي وآخرين في عيد التليفزيون الخمسين بالرغم من دورنا الريادي‏.‏
توليت منصب رئيس اتحاد الكتاب ورئيس جمعية المؤلفين والملحنين فما هي خلاصة تجربتك ؟
يقول بأسي‏:‏ تقصدين خلاصة معاناتي فالعمل العام في مصر قد يصبح أحيانا عائقا للمبدع يكبل خطاه ويمنعه من إكمال مشروعه الذاتي‏..‏ فاتحاد الكتاب كان نصفه ممن لا ينتمون للكتابة بصلة وأصبحوا أعضاء لأغراض انتخابية لذلك معظمهم محبطون‏..‏ وحين طلبت بالإدارة الجماعية وسماع الآراء اتهمت بالضعف لأننا تعودنا علي أسلوب الإدارة الفرعونية التي لا تعرف المناقشة‏..‏ فنحن نعاني من الأمية بين العامة والأمية الثقافية بين قطاع كبير من مدعي الثقافة وعديمي الموهبة الذين يريدون أن يتصدروا المشهد بكل صفاقة‏..‏ لكنني أؤمن أيضا أنه لا يمكن أن توأد موهبة حقيقية أو تنسحق‏,‏ قد تتعطل مسيرتها‏..‏ أنا الآن أفضل التعامل مع المثقفين عن بعد ولست مسئولا إلا عن نفسي فقد فطنت أن العمل العام أحيانا يكون مضيعة للوقت هذه هي خلاصة تجربتي‏.‏
ديوانك الأخير وجوه في الذاكرة جاء في صورة لوحات وبورتريهات إنسانية شديدة العذوبة لكننا لم نعهد هذا القالب من قبل فهل يخضع لمقاييس؟
بالتأكيد فلا توجد قصيدة واحدة ليست من بحر شعري معروف ولو خرجت عن الوزن لأصبحت مقالات‏..‏ فأنا أعتبر هذا الديوان نقلة كبري في حياتي وأشعر أنني عثرت علي كنز ثمين لكتابة قصيدتي التي أخذت الشكل القصصي وأسلوب السرد الذي تمتاز به الرواية‏..‏ فقد استفادت جميع الفنون من الشعر فنقول لغة شاعرية في السينما مثلا وآن الآوان أن يستفيد الشعر من هذه الفنون‏..‏ فالقصيدة لها بداية وأحداث تتطور ومعظم اللوحات عن شخصيات ارتبطت بها بعلاقة إنسانية في مرحلة من العمر‏..‏ فاللغة العربية لابد أن تتجدد وتتواكب مع العصر‏.‏
تنتمي لجيل تربي علي يد الأساتذة واتصل اتصالا مباشرا بالعلماء‏..‏ فما أبرز ما يفتقده الأستاذ الجامعي الآن ؟
عدم إيفاد البعثات للخارج وركود الفكر وعدم قدرته علي أن يصبح فكرا عاما يخترق أسوار الجامعة إلي الخارج كما كانت تفعل محاضرات طه حسين وغيره من الكبار نحن الآن نخوض في غمار موضوعات لا علاقة لها بالعملية التعليمية‏..‏ فالجامعة مشغولة بتوافه الأمور والفصل بين الطلبة والطالبات والفتيات المنقبات‏..‏ وأعتقد أن مشروع النهضة المصرية الذي بدأ سنة‏1919‏ قد صفي تدريجيا ونحتاج رفاعة الطهطاوي مرة أخري‏.‏
نزار قباني وأحمد شوقي والمتنبي نجوم الشعر في العربية كيف تري إبداعاتهم في عبارة موجزة ؟
نزار قباني أكثر الشعراء الذين قرأوا بالعربية وأوسعهم انتشارا‏..‏ أحبه البعض حتي العشق وكرهه البعض الآخر وأباحوا دمه‏..‏ لكن مشكلة نزار أنه كتب بلغة تشبه الكستور الشعبي علي حد تعبيره وهذه اللغة لا تترك مزيدا من التأويل والغموض والعمق عند القراءات اللاحقة لأنها تمنح نفسها للقارئ مرة واحدة شأن المرأة الجميلة الخاوية التي تعتمد علي مظهرها فقط‏..‏ أما شوقي فمن أعظم شعراء العربية كان من رأيه أن للشعر جناحين هما التاريخ والطبيعة ويمثل المتنبي أقصي درجة بلغتها الشاعرية العربية وهو شاعر النفس الإنسانية بلا منازع‏..‏ فهو معنا في كل لحظة وخاطرة يفرض حضوره الوجداني‏.‏
لماذا لا نسمع عن شاعرة ملأت الدنيا وشغلت الناس ؟
التراث الشعري العربي منذ الجاهلية به أكثر من‏300‏ شاعرة وفي منتصف القرن العشرين كان لدنيا نازك الملائكة وفدوي طوقان وغيرهما ويوجد شاعرات الآن‏..‏ ولكن المشكلة تكمن في أن الشعر فن بوح والمرأة تربي في مجتمعاتنا علي الكتمان‏..‏ لذلك نحن غالبا ما نحول إبداع المرأة إلي نميمة فحين كتبت الأديبة كوليت خوري أيام معه قالوا إنها قصة حبها مع نزار قباني والأمر مشابه لما حدث مع الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي في روايتها ذاكرة الجسد‏..‏ قالوا لابد أن الشاعر العراقي سعدي يوسف قام بالصياغة الأخيرة فنحن نستكثر علي المرأة أن تكتب رواية جميلة‏!!‏
قدمت العديد من حفلات أم كلثوم ومازال تعليقك علي أغنية الأطلال يمثل إبداعا مضافا لروعة الأغنية فهل كنت تكتب التعليق وتعده مسبقا بعد الاطلاع علي كلمات الأغنية؟
أم كلثوم جعلتنا نعيش الشعر الغنائي في أروع تجلياته وقد قرأت الأطلال عشرات المرات لكنني حين سمعتها بصوتها في هذا الهودج الموسيقي والأداء الصوتي المعجز والتصورات والأحاسيس التي جسدتها شعرت أنني أطالعها لأول مرة‏..‏ لذلك أنا لا أكون في أفضل حالاتي الإبداعية إلا وأنا أرتجل الكلمات وأمنية حياتي أن أحفظ شعري لكي أرتجله أمام المستمعين‏..‏ فالارتجال يمنحني حيوية ويثري علاقتي بالمستمعين لأنني أرقب ردود أفعالهم مباشرة‏.‏
كنت رئيسا لجمعية المؤلفين والملحنين التي رأسها من قبل محمد عبد الوهاب فما هو أهم ما أستوقفك في شخصيته الإنسانية ؟
كان بيننا اتفاق مبدئي مفاده أن أقوم بإنشاد أغانيه بصوتي في بداية تسجيلاته التي كان يعتزم تجديدها ولم يمهله العمر‏..‏ وأهم ما في شخصيته كان ذكاؤه فذلك أهم جهاز كان يمتلكه محمد عبد الوهاب فلديه قرون استشعار تحميه وتعصمه دائما من مواطن الزلل أو الخطر والأهم أنه كان يعرف مقدار نفسه كفنان فحافظ علي هذه القيمة ولم يهدرها‏..‏ كما فعل غيره من الملحنين الذين استهلكوا أنفسهم ولم يكملوا مشروعهم الإبداعي مثله وأذكر أن وكيل جمعية المؤلفين أخبرني أن عبدالوهاب في مرضه الأخير كان حزينا متقوقعا فقال له في إحدي المرات‏:‏ سوف أموت وسيبقي هذا الحذاء بعد مني عشرين عاما وهو معني مجازي يجسد حرصه علي الحياة‏..‏ واستمرارية عطائه بالرغم من إيمانه العميق بفناء الانسان‏!!‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.