اشتقت إليكم كثيراً.. فبيني وبينكم رباط متين لا ينقطع حتي ولو حالت ظروف استثنائية دون التواصل معكم عبر هذه النافذة التي أشعر أن ما أتناوله من موضوعات فيها إنما هو صدي وانعكاس لهمومكم وما يدور في خلدكم. وقد تأكد لي ذلك من كم الرسائل والاتصالات التليفونية التي تلقيتها بعد أن فوجئتم بانقطاع هذا التواصل معكم لمدة تزيد علي شهرين قليلاً.. كانت رسائلكم واتصالاتكم مفعمة بالود والحب الأمر الذي خفف عني آلام الحادث الذي وقع لي في مدينة تورنتو بكندا التي أزورها زيارة خاصة وطويلة بعض الشيء. إن شتاء كندا صعب للغاية حيث تصل درجة الحرارة إلي 30 تحت الصفر أحياناً وتنزل الثلوج بغزارة فتغطي البيوت والشوارع والطرق ويكسوها اللون الأبيض.. وهنا ينخدع من هو عديم الخبرة مثلي بهذه الأجواء والتي لم يألفها فانزلقت قدمي أمام البيت الذي أقيم فيه وانكسرت يدي اليمني من الساعد تحت مفصل الكتف الأمر الذي أعجزني عن الكتابة طوال هذه الفترة. وقد طالبني بعض الأصدقاء والزملاء بإملاء مقالي علي أحد أفراد الأسرة حتي يستمر التواصل معكم لكني اعتذرت لأنني أشعر أن عملية الإملاء لا تحتضن الفكرة وعمقها بالقدر الذي أخط فيه بقلمي ما يجول بخاطري.. فهناك رابط قوي بين الفكرة العقلانية الممزوجة بالعاطفة الصادقة وبين القلم والورق الذي أسطر عليه بحيث يخرج المقال أيضاً بالخواطر الجياشة إلي القراء وبالتالي يكون له وقعه لديهم. وقد يتساءل البعض: لماذا طالت فترة الشتاء حتي فاقت الشهرين؟ والجواب إن عظام الشباب تلتئم بسرعة.. علي عكس عظام الشيوخ ممن هم في مثل عمري فإنها تستغرق وقتاً أطول.. ولأن فترة حنيني للكتابة قد طالت فقد طلبت من طبيبة العلاج الطبيعي الذي أخضع له حالياً أن أبدأ في الكتابة فنصحتني ألا أكتب المقال دفعة واحدة وإنما أكتب فقرة وأريح يدي فترة ثم أعاود الكتابة.. وها أنذا أعمل بالنصيحة. علي أنه بقدر سعادتي في العودة إلي الكتابة بقدر حزني الشديد علي ثلاثة زملاء صحفيين غيبهم الموت خلال فترة الانقطاع وقد رحلوا عنا وهم في ربيع العمر وفي قمة عطائهم الصحفي. حزني علي الزميل والابن والصديق سيد أحمد محمد نائب رئيس تحرير "المساء" أكبر وأعمق مما تستطيع الكلمات أن تستوعبه.. لقد كان فراقه مفاجأة صادمة للجميع.. واعتقادي أن كل فرد في صحيفة "المساء" أو في مؤسسة دار التحرير بأكملها قد بكاه بحرقة شديدة.. وقد أحسنت صحيفة "المساء" عندما وصفته في نعيه إلي القراء بأنه الصحفي "النبيل". لقد كان سيد أحمد محمد نبيلاً بالفعل في كل شيء.. نبيلاً في خلقه وأدبه.. نبيلاً في تعامله مع زملائه وقياداته.. نبيلاً في مهنته والتزامه.. نبيلاً في إنسانيته وخدماته التي يؤديها للجميع بسعادة ورضا نفس.. كان سيد أحمد محمد هو النبل بعينه. كنت أقول له كلما التقيت به لو كان الأمر بيدي يا سيد لرشحتك لتكون الصحفي المثالي ليس علي مستوي "المساء" فقط ولا علي مستوي مؤسسة دار التحرير بل علي مستوي الصحافة في مصر كلها.. وقد كنت أعني ذلك بحق.. فقد كان هو الصحفي الأمثل. لن ننساك أبداً يا سيد ما حيينا.. فأنت السراج المنير الذي انطفأ فجأة في قمة توهجه وتركنا في ظلام الحزن والألم.. رحمك الله وأسبغ عليك رضاه ورضوانه وألهم أسرته وألهمنا جميعاً الصبر. من عجائب الأقدار أنني كنت كلما جمعني مع سيد لقاء في مكتبي أقول له: أرجو ألا تنساني بدعائك يا سيد عندما أرحل عن هذه الدنيا فأنا أري فيك استقامة تجعلك قريباً من الله مستجاب الدعاء.. ولكنها الأقدار التي حددت الأعمار بحكمة بالغة سرها عند رب العالمين. أما الزميل الثاني الذي افتقدناه هو الأخ والصديق محمد جاب الله الناقد الرياضي الكبير ورئيس تحرير صحيفة "الكورة والملاعب" السابق.. لقد فاجأني خبر رحيله وأنا بعيد عن مصر بعد أيام قلائل من رحيل سيد أحمد محمد فتضاعف الهم والحزن. وما أدراك بمشاعر الحزن عندما تكون بعيداً عن الوطن حيث ينكفئ الإنسان علي نفسه مستغرقاً ومتأملاً لا يجد من يشاركه أحزانه علي زملاء العمل. محمد جاب الله كان مرتبطاً دائماً بقريته في المنوفية. فكان يتمتع بأخلاق الفلاح الأصيل.. يدافع عن الحق مهما كلفه ولا يرتضي بالباطل.. استقامة ما بعدها استقامة.. دائم الاعتراف بفضل من يكبره سنًا؟.. لا يجد أي غضاضة في الاعتذار علناً إذا شعر أنه أخطأ في حق زميل ويرجع نادماً علي تصرفه. فيه شهامة الفلاح إذا قصدته في خدمة ما.. وقد خبرته بنفسي في طلب لأحد الزملاء الذي شعرت بأنه حقه مغبون فسارع بالمساعدة وكان سبباً مباشراً في إنصاف الزميل. رحمك الله يا محمد.. بقدر ما وسع قلبك من حب الناس والتعاطف معهم وبقدر ما قدمت من خير.. وجزاك أحسن الجزاء. أما البسمة الثالثة التي اختفت من حياتنا فهو الزميل إسماعيل بدر المحرر الاقتصادي ونائب رئيس تحرير الجمهورية.. وأقول البسمة لأنك لم تكن تلقي إسماعيل في أي مكان أو زمان إلا وتعلو وجهه ابتسامة صافية. تسبقها "قفشة" من قفشاته التي عرف بها.. يملأ المكان الذي يتواجد فيه مرحاً وبهجة.. ويضفي روحاً من التفاؤل والطمأنينة.. كان بشبابه منطلقاً طموحاً مؤملاً في مستقبل أكثر سعادة.. ورغم أنه كان يتمتع بصحة جيدة بادية عليه إلا أن القدر اختطفه في ساعات معدودة.. لذلك كان وقع الرحيل صادماً للجميع. مع فارق السن الكبير بيني وبينه كان دائم الاتصال بي تليفونياً مبدياً اعجابه وإعجاب السيدة الفاضلة حرمه بما أكتبه في هذا المكان فأشكره واطلب منه إبلاغ شكري وتقديري لها.. أدعو الله أن يهبها ويهبنا الصبر الجميل علي فراق هذا العزيز الغالي. وهكذا تساقطت ثلاث أوراق من أوراق الربيع.. زملاء وأصدقاء في قمة العطاء.. بينما هناك بعض أوراق الخريف وما بعد الخريف مازالت تتمسك بالحياة.. إنها حكمة الله البالغة.. سبحانه وتعالي.