"كانت هجرة حلوب. تحلب العرق. تحلب الذاكرة بمواقيت. كنت كمن كان مهيأ لاستقبال أمر عظيم. كانت حركة الشارع أمامي من خلال زجاج الباب ترجعني برهة لحركة النمل قبل حلول الشتاء. وكانت الشمس تحدق بقسوة كمن تبحث عن شيء عزيز. وكان ذلك اليوم الغامض والذي غير مسار حياتي.."!! هكذا التقط إملاء كاتب وحيه. متعدد الأبعاد. الروائي والشاعر والفنان التشكيلي وعازف الجيتار والمطرب السوداني وآخر خناجر ديسمبر في قلب "أبولو". في روايته "راحيل". ولعلها "رحيل". التي كانت بمجرد ظهورها ذريعة لائقة لاتهامه الصريح بالتغبير في وجه فحول الرواية من الماء إلي الماء ومنحت السودان وعدا بقامة ممتازة تهرول صوب رهانها ب"الطيب صالح" بنكهة الشاب "محمد حسين بهنس". ومن الواضح أن الروائي الكبير أخطأ في التقاط أصابع كاتب وحيه بشكل صحيح. ولعله قد استهان بعرق الشتاء الذي جعله لا مهيأ لاستقبال أمر عظيم فقط. بل جعله تماما. محور الأمر العظيم الذي يشغل الآن قلب القاهرة القاسية القلب. عقب ذاك الموت الغامض الذي جرف مسار حياته تماما. وهو في التقاطه الخاطيء هذا لوحيه يغرد من قلب السرب الوطني. ويعكس التقاطنا الخاطيء لكل ما تواطأ الآخرون. والأرقي. علي اعتماده أسلوبا أنبل للحياة. لقد ظفرت برؤية الشاعر "محمد حسين بهنس" مرة واحدة في أحد مقاهي وسط القاهرة وبالرغم من أنه كان أليفا للجميع لم يترك في ذاكرتي هذا الحضور الذي الآن يؤلمني. لكن تلك السيولة في نظراته كانت تمنحه بالفعل لقب مجنون مؤجل. ومن الغريب أنني لم أر وقتها في تسوله الأنيق ما يدعوني إلي الدهشة. ولعله هو أيضا. ربما لأنني أعرف. وهو يعرف. أن التسول أحد التقاليد التي استراح لها بعض المطبوعين من الشعراء. حتي أن الشاعر "أبا فرعون الساسي" استعاض عن الذهاب إلي بلاط الملوك والأمراء بالمسالك التي يمر بها الحجيج ليتسول بشعره ما يعوله مما يجود به ركاب "الراقصات إلي مني"!! عرفت فيما بعد أن "بهنس" قد انزلق في شرخ الاكتئاب الصارم تعقيبا علي جحود زوجته الفرنسية. وأم ابنه. وترحيله القسري من فرنسا!! إن مشكلة محمد حسين بهنس الحقيقية كما أنها مشكلة الكثيرين في سياقه. هي أنه مبدع حقيقي يلمس جسامة الفجوة بين واقعه وبين ما يجب أن يكون عليه واقع من يملك ما يملك هو من أوسمة. وهي لعمري كثيرة. فضلا عن التجاهل المعتمد لكل صوت يغرد خارج أفق البلاط. وترتيب الضوء المدبر لمبدعين أقل لمجرد أنهم يضبطون علي الدوام أصابعهم المبتلة. ونجمة الشمال. مع اتجاه رياح البلاط!! هناك إشكالية أخري محيرة. كما تكاد تكون عرفا دارجا يضخم هذه الفجوة بشكل عصبي وهي أن تكون صناعة الإبداع تعبيرا محميا علي فقراء القوم أو تكاد.. اسمح له أن ينتابك قليلا. ألم مبدع متعدد الأبعاد ك"بهنس" لا يجد قوت يومه. وهو يري علي شاشة خليجية قاعة هائلة تزدحم بذوي العطور المتضاربة. علي مقاعد مستوردة أنيقة. وزجاجات المياه المعدنية ومنبر مذهب. يجلس خلفه شاعر محلي الصنع يصرخ في الحضور منفعلا: "واش تاخد من حنين القلب وخلاجه"!! سخرية رديئة تتابع ترهلها من خلال لعبة الزمن النبطي الرديء.. سأقول ما سأقول لأنني أؤمن أن الموت قبل كل شيء قرار داخلي.. دهم عطر الشاب "محمد حسين بهنس" القاهرة منذ عامين وبعض العام ليقيم معرضا تشكيليها فيها ويقيم في شقة في وسطها كم كان يلزمه من الوقت ليدرك أنه أكمل دائرة الغبار. قبل أن تتدهور أوضاعه المالية ويترهل اكتئابه. ويعيش علي الأرصفة. ويشكل في النهاية لوحته الأخيرة. الفنان نفسه علي رصيف قذر. في وضع الجنين. يحتضن الفراغ البارد. قد هربت روحه إلي المراعي الغامضة؟ أي اسم يصلح لهذه اللوحة سوي "اللعنة علي كل شيء"؟!!