لم يكن مجرد مستأجر عندي بل صاحب فضل يؤثرني بخصاله الطيبة التي جعلتني حريصا علي معاملاتي معه فكان لا يشغله المكسب بقدر ما يهتم براحة الزبون ورضاه حتي لو خرج من محله دون أن يشتري منه شيئا.. أيضا كان يدهشني بشدة التزامه حين يأتيني بإيجار المحل قبل حلول موعده بشهر كامل وهو ما لم أره من مستأجرين غيره وحين ابتلاه الله في صحته وأصابه الكبد لم تفتر همته ولم عن السير في الطريق الذي رسمه لنفسه وأولاده الستة فتحمل في شجاعة مسئولية الجمع بين وظيفته الحكومية بالمعهد الديني وأعباء الإدارة في محل السلع الغذائية الذي يستأجره مني واضعاً نصب عينيه الانتهاء من تعليم ابنائه الستة لا فرق في ذلك بين الولد والبنت. فتحي الواقع -وهذا اسمه - لم يكن فقط مستأجراً ملتزماً وأميناً بل كان مثالاً فريداً في الصبر وقوة التحمل.. وأتذكره في هذا اليوم وهو عائد لتوه من عيادة الطبيب بعد خضوعه للمنظار فسألته لماذا أتيت إلي المحل ولم تذهب إلي البيت تلتمس الراحة؟.. أجابني: تعبي لا يهم.. "المهم أعمل شيئا للأولاد".. قالها وكأنه يشعر بدنو الأجل فلم يمض وقت طويل حتي جاءني نبأ وفاته .. وفي يوم رحيله كانت كل بيوت بلدتي "الخطاطبة المحطة" تتحدث عن أمانته ومكسبه الحلال ليس فقط من باب "اذكروا محاسن موتاكم" إنما من واقع ما جري في هذا اليوم حيث استغل أحد الأشقياء انشغال ابنائه بتلقي واجب العزاء في أبيهم وقام بسرقة المحل.. و.. وكادت الواقعة تقيد ضد مجهول لولا أن ساق الله إحدي الفتيات لتري ذلك الشقي وهو يقوم بسرقة المحل فتم الابلاغ عنه ليعترف بجريمته ويرد كل ما حصل عليه لأسرة عم "فتحي" علي داير مليم! .. وإن كانت هذه الواقعة مضي عليها ما يقرب من ثلاثة أعوام فإن ما حدث مؤخرا وقبل إجازة العيد مباشرة أري فيه ما يستحق تقديمه لقراء نافذتك حيث يتجلي لطف ربنا بعائلة "فتحي الواقع" فقد شب حريق بالمخزن الملحق بالمحل- والذي يديره الآن أحد ابنائه. هذا الحريق كاد يأتي علي بضاعة يقدر ثمنها بمائة ألف جنيه لولا أن دفع الله بمجموعة من الشباب الحر "الفدائي" هبوا لنجدة العاملين به وبشجاعة منقطعة النظير أخذوا يحطمون الأبواب الحديدية للمخزن ويسارعون إلي انتشال صناديق البضاعة من بين ألسنة النيران التي نجحوا في اخمادها قبل وصول سيارة المطافيء إليهم!! ** في تلك اللحظات رحت أتأمل وجوه هؤلاء الشباب الذين يستحقون مني ومن كل أهالي قرية الخطاطبة المحطة أن ننحني لهم تقديرا لبطولتهم وأن نذكرهم بالاسم وان لم يتسع المقام لذلك فالقائمة طويلة وتضم علي سبيل المثال لا الحصر: فتحي مدكور. بسام المنوفي. حمدي القتب. حمادة عبد الفتاح. وعلي عبد الحميد.. لقد رأيت في قصة "فتحي الواقع" رحمه الله ما فيه رسالة لكل من يتعجل رزقه ويخشي علي أولاده من الفقر أقول له تعلم من ذاك الرجل الذي ظل يتحري الحلال في مطعمه وملبسه رغم قسوة الظروف التي مرت به وكيف جاءت أطواق النجاة لتنجو بماله وشقاء عمره وسنوات كفاحه في الوقت المناسب؟!. أحمد جعفر- المنوفية المحررة: في الأربعاء الماضي تناولت قصة "المحاسب الشيخ" الذي نذر حياته لعمل الخير وأشرت إلي النصيحة التي استمع إليها من رجل في التسعين من عمره حين جاءه شاكياً من تحامل بعض الجمعيات الخيرية المنافسة عليه.. فقال له: ما لايقتلك يقويك فانظر إلي الأمام ولا تلتفت للخلف! .. واليوم تأتيني رسالتك في أعقاب تلك الرسالة لتحمل دروساً أخري في كيفية تحري المال الحلال لتقدم لنا نموذج الراحل "فتحي الواقع" الذي اشتهر بأمانته ليكسب ثقة الجميع في بلدتكم "الخطاطبة المحطة" وقد كنت إنسانا محظوظا حين قابلت في طريقك بخير من تستأمنه علي محلك التجاري فأخذت تتلمس مشواره في السعي علي لقمة العيش. في تعاملاته التي كان يسأل الله فيها الرحمة والمغفرة مقتديا بالحديث الشريف رحم الله رجلاً سمحاً اذا باع واذا إشتري واذا أقتضي . وكان حريصا علي كسب ثقة الزبون "فمن غشنا ليس منا" مقتديا بقول المصطفي فطوبي لمن يتحروا الحلال في حياتهم مثلما فعل صديقك الراحل فكانت سيرته الطيبة بين أهالي بلدتكم الكرام حين حفظ ماله من السرقة في الواقعة الأولي.. وأنقذه من النيران في الواقعة الثانية.. فهنيئاً لأسرته برزقهم الحلال .. وتحية لشباب الخطاطبة الشجعان.