لا شك أن منطقة الشرق الأوسط من غربها إلي شرقها ومن شمالها إلي جنوبها تمر الآن بحالة مخاض عسير يؤذن بتطورات خطيرة قد تؤدي إلي تغيير جذري لكل ما ألفناه خلال تاريخنا الحديث والمعاصر. قد يكون بالوسع أن نفهم بعض الأسباب وأن نتصور بعض ملامح هذا التغيير ولكن يصعب جداً أن نستقصي كل الأسباب وجميع الملامح إذ أن المسألة تحتاج إلي أيام أو شهور أو سنوات حتي يمكننا استيعاب ما يحدث أو سوف يحدث. إن ما يحدث الآن يشبه في كثير من الأسباب والملامح ما حدث في أوروبا الشرقية ابتداء من عام 1989 واستمر خلال العقد الآخير من القرن المنصرم حيث اجتاح زلزال التغيير هذه المنطقة من العالم ولا يزال. حتي أصبحت أوروبا الشرقية الآن مختلفة تماماً عن أوروبا الشرقية السابقة وإن كانت وتيرة التغيير في منطقتنا تبدو أسرع وربما أكثر عنفا وعمقاً. في أقصي جنوب المنطقة حيث اليمن والسودان تعالت منذ فترة طويلة نسبيا الأصوات المطالبة بالتغيير ثم ما لبثت المطالبات أن تحولت إلي مظاهرات واحتجاجات وصدامات أدت إلي انقسام الثانية إلي دولتين بينما تحاول الأولي أن تحتفظ بوحدتها وبدأت الحكومة تقدم تنازلا تلو الآخر. كما بدأ النظام الحاكم يقدم علي خطوات جذرية لاحتواء الثورة حيث خرج الرئيس علي عبدالله صالح أخيراً ليؤكد أنه سيكتفي بالدورة الحالية كرئيس ولن يرشح نجله للرئاسة بعد ما بدأ أمر التمديد أو التوريث في حكم الأمر المنتهي منه ولكن القصة هناك لها فصول أخري قد تطول أو تقصر. وفي أقصي الغرب يتململ المغرب علي وقع المطالب المتزايدة. لسكان الصحراء بالانفصال وتشهد الجزائر اضطرابات واسعة علي اثر عدم استجابة النظام لمطالب قطاع كبير من الجماهير تتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وفي تونس سقط زين العابدين بن علي وفر هارباً تحت ضغط الثورة الشعبية ضد الاستبداد والفساد وبات مطلوبا للعدالة. وفي الشرق تموج الأردن بمطالب مماثلة تدفع النظام إلي المبادرة بإحداث تغييرات حكومية متسارعة عساها تحتوي بعض المطالب التي طالت كل شيء حتي تلك التي ظن البعض أنها مقدسة ولا تمس كحقوق الأسرة المالكة التاريخية في السلطة والثروة. وفي الوسط حيث قلب الأمة العربية مصر خرجت مظاهرات غير مسبوقة ورأينا مواجهات لم نعتدها اعتراضا علي الانفراد بالسلطة واستئثار طبقة بعينها بالثروة بينما الشعب يواجه من التحديات المعيشية اليومية الشيء الكثير ووصلت الأمور إلي حد المطالبة باسقاط النظام كله مما دفع الرئيس نفسه للإعلان رسميا عن نيته في التخلي عن الحكم مع انتهاء فترة ولايته الحالية أي نوفمير من العام الحالي ورغم ذلك لم تهدأ الأمور ولاتزال مصر حتي الآن تضطرب في كل شبر من أرضها وسوف نري ما سوف تحمله الأيام القادمة. ولا ريب أن البقية ستأتي لا محالة حيث لا يمكن تصور أن يطول التغيير مصر ولا يطول بقية دول المنطقة بينما كان يظن أن مصر أكثر دول المنطقة استقراراً. ومبدئيا يمكن تلخيص الأسباب التي أدت إلي هذه الموجة العاتية من التغيير في عبارة واحدة قد تكون جامعة هي إصرار البعض علي الاستئثار بالسلطة والثروة وما يصاحب ذلك عادة من التزوير والفساد وإن تفاوتت الدرجات بين دولة وأخري وهو ما يؤدي عادة إلي تهميش الشعوب وكأنها ليست صاحبة الحق الأصيل في السلطة والثروة باعتبار الحكومات والأنظمة نظريا نائبا عن الشعوب في تصريف الأمور ليس إلا. يضاف إلي ذلك أن هذه النظم والحكومات لاتزال تستخدم أساليب وأدوات بالية ولم تستوعب حجم التغيير الذي طرأ علي العالم ومن أمثلة ذلك إصرارها علي عدم إعطاء شعوبها حق التعبير والاجتماع والمشاركة في صنع القرار متناسية أن لديها أجيالاً جديدة بوسعها فعل ذلك كله رغم أنفها من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالنت والفيس بوك والتويتر وخلافه. كما أن هذه النظم والحكومات ماتزال تتصور أن بوسعها حجب المعلومات والحقائق عن شعوبها بينما بات العالم ليس فقط قرية صغيرة بل منزلاً واحداً يعرف كل أعضائه كل شيء عن الباقين. الملمح الآخر والأهم أن كثيرا من النظم والحكومات والطبقات المحيطة بها في هذه المنطقة ماتزال تتصور أن بوسعها أن تمارس العمي والصمم وعدم الفهم تجاه شعوبها إعتمادا علي قوي خارجية هي بالأصل وفي الغالب غير مهتمة بأي شيء إلا مصالحها وأطماعها. بينما أثبتت كل التجارب أن فكرة الاستقواء بالخارج هي بالأساس وهم كبير حيث ثبت تخلي هذا الخارج عنهم مع أول بادرة لتمرد شعوبهم عليهم. وبالاجمال يمكن القول إن النظم والحكومات القادمة شاء الجميع أو أبي لابد وأن تكون نظما وحكومات تعبر عن شعوبها بشكل حقيقي وتستمد شرعيتها القانونية والواقعية منها فقط دون استبداد أو استئثار بالثروة وصنع القرار من خلال مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية تدرك ذلك وتعيه وإلا فالشعوب الآن جاهزة للثورة مرة بعد مرة. حتي باتت هذه الحقيقة المشاهدة أشبه بالقانون الحتمي للتاريخ وعلي من ينكر هذا القانون أن يتحمل التبعية ويدفع فاتورة الحساب.