حل الروائي الكبير بهاء طاهر ضيفا علي معرض القاهرة الدولي للكتاب في لقاء احتشد له عدد كبير من الجمهور ومحبي وأصدقاء صاحب: نقطة النور. وخالتي صفية. وبالأمس حلمت بك. وشرق النخيل.. وغيرها من الأعمال المهمة. وفي بداية اللقاء هنأ د. أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب. بهاء طاهر بعيد ميلاده ال78 الذي يوافق 13 يناير. وذكر الحضور بتنازل الأديب الثائر عن جائزة مبارك عقب اندلاع الثورة. فضلا عن خروجه مع الجماهير في الميادين المختلفة مطالباً بإسقاط النظام. القريبون من بهاء طاهر يعرفون أنه يخفي تواضعه بدعابة وهو ما جعله يقول: لا أستحق هذا الإطراء. ولكن عندما نشيخ نحب أن نستمع إلي كلمات المديح! اختار الروائي الكبير أن يبدأ حديثه بالتعقيب علي خاتمة المناظرة السياسية التي سبقت اللقاء. قائلاً: لفت نظري جو اللاحوار في الحوار.. كل طرف ينصرف عن سماع الآخر.. أضاف: المسألة ذات تاريخ طويل. ذكرته في كتاباتي من قبل. حول صراع رؤيتين للمستقبل.. من يؤيدون منهج محمد علي الإصلاحي ومن يعتبرن الانفصال عن الدولة العثمانية انفصالا عن الإسلام. أضاف ان الصراع بدأ مع الخلافة العثمانية منذ قرنين. عندما تولي محمد علي الحكم. وأنقذ مصر من الهلاك. فالحكم حينها وصفه جمال حمدان بالاستعماري والاستغلالي.. وكانت كل خيرات مصر يتم توجيهها إلي تركيا.. وفي نهاية الحكم العثماني وصل عدد سكان مصر إلي أقل كثافة. 2 مليون نسمة. وكان الاندثار يسير بخطي حثيثة حيث أرض زراعية مهملة الخدمات. وضرائب فادحة جعلت أهل القري يهربون من قراهم. فكانت النتيجة تقليص عدد السكان. وكان قيام محمد علي بالإصلاح الزراعي يمهد لارتفاع عدد السكان الذين وصلوا في نهاية حكمه إلي 4 ملايين. وقال بهاء: هذا الحكم الإصلاحي أسهم في انقاذ البلاد.. ومع ذلك كان هناك الكثيرون ممن يرون في انفصال مصر عن الخلافة العثمانية انفصالاً عن الإسلام! لم يتحرج بهاء في أن يصف محمد علي بالحاكم المسبد. واستدرك: كانت له خطة وذراع إصلاحية هو رفاعة الطهطاوي الذي أحيا مفهوم الأمة المستقلة وبدأ بإيقاظ الاحساس بالوطنية المصرية. وكان يقول: مصر ليست مجرد رعايا للسلطان العثماني. وقاوم سياسة الخلافة العثمانية التي كانت تقوم علي مبدأ: فرق تسد. وثاني خطوة لرفاعة دعوته للوحدة الوطنية: مصر أم لكل بنيها وبر الأم واجب علي كل الأبناء. ولابد أن يعيشوا كإخوة في ظل الأم.. "ومن ثمار ذلك تأسست أمة مصرية ثارت بجهود أبناء مثل محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين وكلهم ساهموا في تحقيق نهضة بناء الدولة المصرية الحديثة التي تجسدت في ثورة عرابي. و1919. و.1952 ومن كان يرفض الخروج علي الخلافة العثمانية كوّن تيارا يعادي الدولة المدنية دعا له في البداية محمد رشيد رضا تلميذ محمد عبده. ثم حسن البنا. وسيد قطب. وكل هذه التيارات كانت تستخدم الدين كمظهر لا جوهر.. وهو ما يثبت أن ما يحدث في المجتمع الآن له جذور منذ قرنين من الزمان. بهاء طاهر الذي يؤمن بالديمقراطية والحوار توقف عن الحديث. وطلب أن يستمع إلي مداخلات الحضور. ويجيب عن أسئلته. وابتسم الدكتور مجاهد وهو يقول: هذه عادة بهاء طاهر. أتينا به لننصت إلي تجربته فخاض في الحديث عن تاريخ مصر. ونزولا علي رغبته سنبدأ في طرح الأسئلة عليه وسؤالي له: إذا كانت ثورة يناير قد قام بها الشباب. * كيف رأي بهاء طاهر هذا الجيل في ثورته. وهل كان يتوقع أن هؤلاء الشباب من الممكن أن يقوموا بهذا الفعل؟ ** أجاب بهاء: أزعم أن جيلنا هو من بشر بهذه الثورة. وأنا واحد من المؤسسين لحركة "كفاية" التي ناهضت حكم الرئيس السابق والتوريث. ومع ذلك لم أكن أتوقع أن يقوم الشباب بثورة علي هذه الدرجة من الوعي. وهو ما يجعلني أشعر أنهم سبقونا. وذلك نتيجة استخدامهم لوسائل اتصالات لم تكن متاحة لجيلنا. وعندما تكلمت عن الانقسام الذي حدث بعد انفصال مصر عن الخلافة كنت أؤكد علي استمرار صراع بين تيارين. وأنه لا يمكن لأي فريق من الفريقين أن يحقق الغلبة علي الآخر. ولا بد أن يعترف كل منهما بالآخر.. بدون التوافق لن نتقدم خطوة واحدة للأمام. ومن في السلطة يجب أن يتخذ الخطوة الأولي ويمد يده للمعارضة. أنا متفائل بحدوث هذا التوافق. لأن مصر في الأساس مجتمع زراعي يرجع تاريخه إلي سبعة آلاف سنة. ويقوم علي التعاون وليس التناحر. ولن يقضي عليه خلاف سبعين عاما.. علي عكس المجتمع الصحراوي الذي يحيا علي الصراع. يرد بهاء علي سؤال حول رؤيته لمصر بعد الثورة في ظل حكم الإخوان.. قلت: إننا محكوم علينا أن نعيش سويا. ويجب ألا ننخدع بمسألة الأعداد. كلا التيارين موجود. يعترف بهاء طاهر بأنه ليس خبيرا في الأخبار اليومية بعد أن تم توجيه سؤال إليه عن رأيه في إنذار الغضب الأول للألتراس أهلاوي وما سببه من حالة شلل أصابت عدة مرافق. يضيف: هناك غضب اجتماعي يعبر عن نفسه سواء مع الألتراس أو غيرهم. ولابد أن يتم الاعتراف بأن هذه الفئات لها حقوق ومطالب وحتي لا تستمر الاضطرابات يجب تلبية المطالب العاجلة. * وحول سؤال: أين عقلاء الأمة ممن يمكنهم أن يقولوا رأيهم بصراحة وبدون مجاملة. خاصة أن الأزمة تشتد.. في رأيك ما هي الخطوات للخروج؟ ** قال بهاء طاهر: المشكلة تكمن في أن كل فريق متمترس خلف آرائه السابقة. لا أحد ينتقد نفسه. وكل منهما يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة. ورأيي أعبر عنه يوميا من خلال ما أكتبه من مقالات. وأنا أنتمي للتيار المدني الذي تكوّن منذ قرنين. وأؤمن بأن الاتجاه المدني هو ما أنقذ مصر من كوارث كثيرة ومن أعطي الحق للمرأة.. أنا خصم فكري لتيار الإسلام السياسي. ولكن لا يجب إغفال وجوده وقواعده التي لا نقبلها. وعليه هو أيضا أن يعترف بوجودنا وقواعدنا ولا يرفضنا. وكان لا ينبغي أن يفرض عينا جمعية تأسيسية ومجلس شوري ب7% من الشعب. أضاف: التيار الحاكم إيه أعداد أخري بعد أن أخل بصيغة التعاقد بين الناخب والسلطة. وهو أن المجلس لا يحق له التشريع. ولكنه مارس بالفعل هذا الدور وفرض قانون انتخابات لم يخضع لنقاش مجتمعي أو تتدارسه الأحزاب السياسية. * وسأله أحد الحاضرين: هل تعتقد تغييرا في تفكير المجتمع المصري وتعديل رؤيته؟! ** قال: إذا كنت قد فهمت السؤال جيدا فأنت تقصد: هل سيحدث تغيير في طبيعة المجتمع المصري؟ .. نرجو أن يكون للأفضل -يبتسم- ولكن ابن خلدون يقول: "الناس مع الغالب" وهذا ما جعل لمن كانت لهم أفكار معاكسة للتيار الإسامي من المؤيدين له.. وأكرر: لا أعتقد أن كلا الطرفين سيحقق نصرًا كاسحًا علي الآخر فلكل منهما جذور من الصعب اقتلاعها. * وفي إجابته علي سؤال: إلي أي حد قد يصل تأثير الثقافة البدوية علي المجتمع المصري والمهم هل سيصمد؟ ** يجيب بهاء طاهر سريعا: تأثير مدمر. ومرتبط بالثراء الواسع الذي حققته المجتمعات الصحراوية ورغبتها المحمومة في السيطرة علي المجتمعات الزراعية.. وهو ما يجعلني أتساءل عن ماهية الشيء المهم الذي يجعل "قطر" تريد السيطرة علي قناة السويس. والبحث عن نفوذ لها في مصر.. هل هناك سبب إلا أنها تمتلك الثراء؟! * ويقترح أحد الحضور أن تخضع تيارات المعارضة لتنظيم واحد أو حزب بإمكانه المنافسة بقوة؟! ** يعلق الأديب الكبير: وجهة نظر محترمة. ولكني لست ضد وجود أحزاب مختلفة في نطاق الفكر العلماني أو الليبرالي فالاختلاف سنة الكون.. ثم لماذا لا تكون هناك تيارات مختلفة تدعو لنفس الشيء. أليس هذا أفضل من إقامة حزب واحد قد يمارس الديكتاتورية.. لا أجد الخطر في وجود أحزاب متعددة ولكن في اختفاء الرؤية المشتركة والموقف الموحد في لحظات الأزمة.. تعدد وجهات النظر في التيارات مصدر ثراء. * واستغرب أحد الحضور من ثورات الربيع العربي التي قام بها أنصار الدولة المدنية وربح فيها الحكم دعاة الدولة الدينية.. وتحدث عن المجتمعات البترولية وحربها ضد الدولة المدنية في الوقت الذي ذكّر فيه بهاء طاهر بأن الصراع بين الدولتين: المدنية والدينية لا ينحصر في مصر وحدها. ففي تونس مثلاً كان هناك خيرالدين باشا وبورقيبة. ويرد بهاء: لست غافلا عن الواقع العربي الذي ينطوي علي كل هذه التناقضات وتحدثت عن الواقع المصري لأني أعرف تفاصيله. ما حاولت أن أقوله أن هناك أساسا أو خلفية تاريخية لهذا الموقف الملتبس الآن. كلا الطرفين عاني من الحكم الاستبدادي قبل الثورة لكن تيار الإسلام السياسي كان الأكثر تنظيما وأموالا ويمتلك قواعد تاريخية. وهو ما مكنه من الحكم.. وفي المقابل من الصعب علي التيار المدني تحقيق انتصار كاسح علي التيار الديني.. وأقول: ولا الأخير يمكنه تحقيق هذا الانتصار. ولابد من تدويل السلطة. وعن الصدام بين المثقف والسلطة واستبعاد الحاكم للمثقف يقول بهاء: المثقف هو الخطر الحقيقي علي المستبد لأنه يسعي إلي التنوير ونشر الوعي. كل ما وصلنا إليه من تراجع هو نتيجة ضرب المثقفين منذ الستينيات.. عندما كان يحكم عبدالناصر بيد من حديد كان يعترف بالمثقفين. وأسند رئاسة تحرير "الجمهورية" ل طه حسين.. وهذا لا ينفي أن موقفه من السياسة كان ملتبسا. وفي السبعينيات بدأ عزل المثقفين حيث كان للسادات مشروع مختلف عبرت عنه نكتة تم تداولها تقول: "إن سائقه سأله: يمين ولا شمال؟ فقال له: إدي إشارة شمال وخش يمين..". كان مشروعا يمينيا من أهم أسسه استبعاد المثقفين وبدأت المسألة بإغلاق كل المجلات والمنابر الثقافية والتنويرية التي تكونت في العهد الناصري والتي تلعب دورا في العلاقة بين المثقف والجماهير وتم استبدالها بوعّاظ الخليج لصبغ المجتمع بصبغة يمينية فتم التركيز علي الجانب التعبدي وتكريس العقيدة الخليجية في الواقع المصري. * وسأله أحد الحاضرين: في مقالك الأخير "أول مليونية" تحدثت عن شرخ نتيجة للانقسام السياسي.. فكيف حدث الشرخ مع عدم وجود حوار؟ ** قال: تحدثت في المقال عن ذكرياتي وتطرقت إلي وحدة المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي وما حدث عقب 67 من رفض للاحتلال الصهيوني ونفس الشيء تم في يناير 2011 من ثورة علي الظلم والفساد نتيجة وحدة قال عنها توفيق الحكيم: "واحد هو الكل لكل هو الواحد".. ولكن الآن هناك خلاف في الأسرة الواحدة. ولن يتم التغلب عليه إلا باعتراف الطرفين بالحق المشروع في الوجود حتي لا نصل إلي الحالة في لبنان أثناء الحرب الأهلية التي اقتتل فيها الأخوة. * كيف تري الثورة في الإبداع وهل نحتاج إلي فترة لإعادة كتابتها وما هو مستقبل الأدب بعد ثورة يناير؟ ** يقول بهاء: تولستوي تحدث في إبداعه عن غزو نابليون لروسيا بعد 50 سنة في روايته "الحرب والسلام.." لن يحدث تعبير أتوماتيكي للحظة. فما يكتب الآن من شهادات "لا أعتبره إبداعا ثوريا" وهو خامة للأدب الذي سوف يكتب مستقبلاً. ولكن هناك التعبير المباشر للحالة جاء في قصيدة الأبنودي "الميدان" وكان تعبيرًا تلقائيًا وصادقًا عن مثقف مصري ناحية وطنه وهي أمثلة بالغة الندرة واستثنائية. وقرأت أعمالا أخري حاولت أن تفعل ذلك ولكنها لا تحقق نفس التأثير.. والتعبير الجيد عن الثورة سيتأخر. ويلتقط منه طرف الخيط د. مجاهد فيقول: ربما لأن الشعر يعتمد علي الانفعال فهو الأقرب للتعبير عن الثورة وهو ما لايمتلكه السرد. قال أحد الحضور موجها كلامه لبهاء طاهر: لا أحد ينكر مفاجأة ثورة يناير. لكن الثورة بعد عامين لم يتحقق من شعارها شيء. ألست محبطا مثلنا؟.. ألست محبطا لأن الثورة لم تحقق شعارها "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".. وما هو تعليقك عما قاله هيكل: الرئيس الذي سيحكم مصر لا بد أن ترضي عنه أمريكا وإسرائيل.. * وهل تستطيع قوي الثورة أن تحمي وتبني نفسها بعيدا عن الرأسمالية والشركات عابرة القارات؟ ** يرد بهاء: أنا دائما متفائل برغم كل ما يحدث .. نعم الثورة لم تحقق أي شيء من أهدافها والأسباب متعددة منها أخطاء المجلس العسكري والتربيطات مع التيار الإسلامي والأصابع الأمريكية.. ولقد استمعت بالأمس إلي حوار لنهي الزيني تحدثت فيه عن أصابع أمريكا التي كانت تتدخل في كل خطوات الثورة.. وقلت: منذ بداية الثورة لابد من الاستقلال الوطني بعيدا عن الهيمنة والثورة ستحقق أهدافها لقوة إيمان شباب الثورة.. وكل الثورات يحدث فيها انتصار وانكسار ولكنها تنجح في النهاية.