أنا خصم فكري لتيار الإسلام السياسي.. ولكن لا يجب إغفال وجوده وقواعده! بدون التوافق لن نتقدم خطوة واحدة وعلى السلطة أن تمد يدها للمعارضة مصر مجتمع زراعي يقوم على التعاون وليس التناحر إبداع الثورة سوف يكتب مستقبلا.. والأبنودي استثناء! قبل اللقاء بفترة حضر بهاء طاهر، جلس ليستمع إلى المناظرة السياسية.. الكاتب الكبير الذي التصق بالجماهير لم يفصله عن الثمانين إلا عامين، مشيته البطيئة وهو يتجه إلى المنصة يستند على أحدهم، وانحناءته الخفيفة وعيونه الثاقبة خلف نظارته وهو يستريح على مقعده، جعلته أقرب لحكيم يتهيأ للبوح. بدت الحيرة واضحة على الدكتور أحمد مجاهد - رئيس الهيئة العامة للكتاب- وهو يبحث عن كلمات باستطاعتها أن تقدم ضيفه الكبير، فترة من الصمت سبقت حديثه ليقول: لا يحتاج بهاء طاهر إلى تعريف وإذا أردت أن أفعل فيمكنني إيجاز ذلك في جملة واحدة: هو واحد من الرواد الذين قدموا لنا ما نعرفه بشعرية القص. وفى بداية اللقاء الفكرى الذى عقد ضمن أنشطة المحور الرئيسى، هنأ د.مجاهد، بهاء طاهر بعيد ميلاده ال 78 الذي مضى عليه أيام (13 يناير) وذكر الحضور بتنازل الأديب الثائر عن جائزة مبارك عقب اندلاع الثورة، فضلا عن خروجه مع الجماهير في الميادين المختلفة مطالبا بإسقاط النظام. القريبون من بهاء طاهر يعرفون أنه يخفي تواضعه بدعابة وهو ما جعله يقول: لا أستحق هذا الإطراء، ولكن عندما نشيخ نحب أن نستمع إلى كلمات المديح! اختار الروائي الكبير أن يبدأ حديثه بالتعقيب على خاتمة المناظرة السياسية التى سبقت اللقاء، قائلا: لفت نظري جو اللا حوار في الحوار.. كل طرف ينصرف عن سماع الآخر، وأضاف: المسألة ذات تاريخ طويل، ذكرته في كتاباتي من قبل، حول صراع رؤيتين للمستقبل.. من يؤيدون منهج محمد على الإصلاحى ومن يعتبرون الانفصال عن الدولة العثمانية انفصالا عن الإسلام. الصراع بدأ مع الخلافة العثمانية منذ قرنين، عندما تولى محمد على الحكم، وأنقذ مصر من الهلاك، فالحكم حينها وصفه جمال حمدان بالاستعماري والاستغلالي.. وكانت كل خيرات مصر يتم توجيهها إلى تركيا.. وفي نهاية الحكم العثماني وصل عدد سكان مصر إلى أقل كثافة؛ 2 مليون نسمة، وكان الاندثار يسير بخطى حثيثة حيث أرض زراعية مهملة الخدمات، وضرائب فادحة جعلت أهل القرى يهربون من قراههم، فكانت النتيجة تقليص عدد السكان. وكان قيام محمد على بالإصلاح الزراعي يمهد لارتفاع عدد السكان الذين وصلوا في نهاية حكمه إلى 4 مليون، وقال بهاء: هذا الحكم الإصلاحي أسهم في انقاذ البلاد.. ومع ذلك كان هناك الكثيريون ممن يرون في انفصال مصر عن الخلافة العثمانية انفصالا عن الإسلام!. لم يتحرج بهاء في أن يصف محمد على بالحاكم المستبد، ويستدرك: كان له خطة وذراع إصلاحي هو رفاعة الطهطاوى الذى أحيا مفهوم الأمة المستقلة وبدأ بايقاظ الاحساس بالوطنية المصرية، وكان يقول: مصر ليست مجرد رعايا للسلطان العثماني، وقاوم سياسة الخلافة العثمانية التي كانت تقوم على مبدأ: فرق تسد. وثاني خطوة لرفاعة دعوته للوحدة الوطنية: "مصر أم لكل بنيها وبر الأم واجب على كل الأبناء، ولا بد أن يعيشوا كأخوة في ظل الأم".. ومن ثمار ذلك تأسست أمة مصرية ثارت بجهود أبناء مثل محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين وكلهم ساهموا في تحقيق نهضة بناء الدولة المصرية الحديثة التي تجسدت في ثورة عرابي، و1919، ويوليو 1952. ومن كان يرفض الخروج عن الخلافة العثمانية كوّن تيارا يعادي الدولة المدنية دعا له في البداية محمد رشيد رضا تلميذ محمد عبده، ثم حسن البنا وسيد قطب وكل هذه التيارات كانت تستخدم الدين كمظهر لا جوهر.. وهو ما يثبت أن ما يحدث في المجتمع الآن له جذور منذ قرنين من الزمان. بهاء طاهر الذي يؤمن بالديمقراطية والحوار توقف عن الحديث، وطلب أن يستمع إلى مداخلات الحضور، ويجيب عن أسئلته، وابتسم الدكتور مجاهد وهو يقول: هذه عادة بهاء طاهر، أتينا به لننصت إلى تجربته فخاض في الحديث عن تاريخ مصر، ونزولا على رغبته سنبدأ في طرح الأسئلة عليه وسؤالي له: إذا كانت ثورة يناير قد قام بها الشباب، كيف رأى بهاء طاهر هذا الجيل في ثورته وهل كان يتوقع أن هؤلاء الشباب من الممكن أن يقوموا بهذا الفعل؟ ويجيب بهاء: أزعم أن جيلنا هو من بشر بهذه الثورة، وأنا واحد من المؤسسين لحركة كفاية التي ناهضت حكم الرئيس السابق والتوريث، ومع ذلك لم أكن أتوقع أن يقوم الشباب بثورة على هذه الدرجة من الوعي، وهو ما يجعلني أشعر أنهم سبقونا وهو نتيجة استخدامهم لوسائل اتصالات لم تكن متاحة لجيلنا. وعندما تكلمت عن الانقسام الذي حدث بعد انفصال مصر عن الخلافة كنت أؤكد على استمرار صراع بين تيارين، وأنه لا يمكن لأى فريق من الفريقين أن يحقق الغلبة على الآخر، ولابد أن يعترف كل منهما بالآخر.. بدون التوافق لن نتقدم خطوة واحدة للأمام، ومن في السلطة يجب أن يتخذ الخطوة الأولى ويمد يده للمعارضة. أنا متفائل بحدوث هذا التوافق، لأن مصر في الأساس مجتمع زراعي يرجع تاريخه إلى سبعة آلاف سنة، ويقوم على التعاون وليس التناحر، ولن يقضى عليه خلاف سبعين عاما.. على عكس المجتمع الصحراوي الذي يحيا على الصراع. ويرد بهاء عن سؤال حول رؤيته لمصر بعد الثورة في ظل حكم الإخوان: قلت إننا محكوم علينا أن نعيش سويا، ويجب ألا ننخدع بمسألة الأعداد، كلا التيارين موجودين. ويعترف بهاء طاهر بأنه ليس خبيرا في الأخبار اليومية بعد أن تم توجيه سؤال إليه عن رأيه في إنذار الغضب الأول للأولتراس أهلاوي وما سببه من حالة شلل أصابت عدة مرافق ويضيف: هناك غضب اجتماعي يعبر عن نفسه سواء مع الأولتراس أو غيرهم، ولابد أن يتم الاعتراف بأن هذه الفئات لها حقوق ومطالب وحتى لا تستمر الاضطرابات يجب تلبية المطالب العاجلة. وحول سؤال: أين عقلاء الأمة ممن يمكنهم أن يقولوا رأيهم بصراحة وبدون مجاملة، خاصة أن الأزمة تشتد.. في رأيك ما هي الخطوات للخروج؟. يقول بهاء: المشكلة تكمن في أن كل فريق متمترس خلف آرائه السابقة، لا أحد ينتقد نفسه، وكل منهما يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ورأيي أعبر عنه يوميا من خلال ما أكتبه من مقالات، وأنا أنتمي للتيار المدني الذي تكون منذ قرنين، وأؤمن بأن الاتجاه المدني هو ما أنقذ مصر من كوارث كثيرة ومن أعطى الحق للمرأة.. أنا خصم فكري لتيار الإسلام السياسي ولكن لا يجب إغفال وجوده وقواعده التي لا نقبلها، وعليه هو أيضا أن يعترف بوجودنا وقواعدنا ولا يرفضنا، وكان لا ينبغى أن يفرض علينا جمعية تأسيسية ومجلس شورى انتخب ب 2% من الشعب. وأضاف التيار الحاكم إيه أعداد أخرى بعد أن أخل بصيغة التعاقد بين الناخب والسلطة وهو أن المجلس لا يحق له التشريع، ولكنه مارس بالفعل هذا الدور وفرض قانون انتخابات لم يخضع لنقاش مجتمعي أو تتدارسه الأحزاب السياسية. ويسأله أحدهم: هل تعتقد تغييرا في تفكير المجتمع المصري وتعديل رؤيته؟! يفكر قبل أن يقول: إذا كنت قد فهمت السؤال جيدا فأنت تقصد: هل سيحدث تغيييرا في طبيعة المجتمع المصرى؟.. نرجو أن يكون للأفضل يبتسم ولكن ابن خلدون يقول: "الناس مع الغالب" وهذا ما جعل لمن كانت لهم أفكارا معاكسة للتيار الإسلامي من المؤيدون له.. وأكرر: لا أعتقد أن كلا الطرفين سيحقق نصرًا كاسحًا على الآخر فلكل منهما جذورا من الصعب اقتلاعها. وفى إجابته على سؤال إلى أي حد قد يصل تأثير الثقافة البدوية على المجتمع المصري والمهم هل سيصمد؟.. يجيب بهاء طاهر سريعا: تأثير مدمر، ومرتبط بالثراء الواسع الذي حققته المجتمعات الصحراوية ورغبتها المحمومة في السيطرة على المجتمعات الزراعية.. وهو ما يجعلني أتساءل عن ماهية الشئ المهم الذي يجعل قطر تريد السيطرة على قناة السويس والبحث عن نفوذ لها في مصر.. هل هناك سبب إلا أنها تمتلك الثراء؟! ويقترح أحد الحضور أن تخضع تيارات المعارضة لتنظيم واحد أو حزب بإمكانه المنافسة بقوة؟! ويعلق الأديب الكبير: وجهة نظر محترمة، ولكني لست ضد وجود أحزاب مختلفة في نطاق الفكر العلماني أو الليبرالي فالاختلاف سنة الكون.. ثم لماذا لا تكون هناك تيارات مختلفة تدعو لنفس الشئ، أليس هذا أفضل من إقامة حزب واحد قد يمارس الديكتاتورية.. لا أجد الخطر في وجود أحزاب متعددة ولكن في اختفاء الرؤية المشتركة والموقف الموحد في لحظات الأزمة.. تعدد جهات النظر في التيارات مصدر ثراء. واستغرب أحد الحضور من ثورات الربيع العربي التي قام بها أنصار الدولة المدنية وربح فيها الحكم دعاة الدولة الدينية.. وتحدث عن المجتمعات البترولية وحربها ضد الدولة المدنية في الوقت الذي ذكّر فيه بهاء طاهر بأن الصراع بين الدولتين: المدنية والدينية لا ينحصر في مصر وحدها ففي تونس مثلا كان هناك خير الدين باشا وبورقيبة.. ويرد بهاء: لست غافلا عن الواقع العربي الذي ينطوي على كل هذه التناقضات وتحدثت عن الواقع المصري لأني أعرف تفاصيله، ما حاولت أن أقوله أن هناك أساسا أو خلفية تاريخية لهذا الموقف الملتبس الآن، كلا الطرفين عانى من الحكم الاستيدادي قبل الثورة لكن تيار الاسلام السياسي كان الأكثر تنظيما وأموالا ويمتلك قواعد تاريخية وهو ما مكنه من الحكم.. وفي المقابل من الصعب على التيار المدني تحقيق انتصارا كاسحا على التيار الديني وأقول ولا الأخير يمكنه تحقيق هذا الانتصار ولا بد من تدويل السلطة. وعن الصدام بين المثقف والسلطة واستبعاد الحاكم للمثقفين يقول بهاء: المثقف هو الخطر الحقيقي على المستبد لأنه يسعى الى التنوير ونشر الوعي، كل ما وصلنا إليه من تراجع هو نتيجة ضرب المثقفين منذ الستينات.. عندما كان يحكم عبد الناصر بيد من حديد كان يعترف بالمثقفين، وأسند رئاسة تحرير "الجمهورية" ل طه حسين.. وهذا لا ينفي أن موقفه من السياسة كان ملتبسا، وفي السبعينات بدأ عزل المثقفين حيث كان للسادات مشروعا مختلفا عبرت عنه نكتة تم تداولها تقول "إن سائقه سأله: يمين ولا شمال؟.. فقال له: إدى إشارة شمال وخش يمين".. كان مشروعا يمينيا من أهم أسسه استبعاد المثقفين وبدأت المسألة بإغلاق كل المجلات والمنابر الثقافية والتنويرية التي تكونت في العهد الناصري والتي تلعب دورا في العلاقة بين المثقف والجماهير وتم استبدالها بوعّاظ الخليج لإصباغ المجتمع بصبغة يمينية فتم التركيز على الجانب التعبدي وتكريس العقلية الخليجية في الواقع المصري. وسأله أحد الحاضرين: في مقالك الأخير "أول مليونية" تحدثت عن شرخ نتيجة للانقسام السياسي.. فكيف حدث الشرخ مع عدم وجود حوار؟ تحدثت في المقال عن ذكرياتي وتطرقت إلى وحدة المصريين ضد الاحتلال الانجليزي وما حدث عقب 67 من رفض للاحتلال الصهيوني، ونفس الشئ تم في يناير 2011 من ثورة على الظلم والفساد نتيجة وحدة قال عنها توفيق الحكيم. "واحد هو الكل والكل هو الواحد".. ولكن الآن هناك خلاف في الأسرة الواحدة ولن يتم التغلب عليه إلا باعتراف الطرفين بالحق المشروع في الوجود حتى لا نصل إلى الحالة في لبنان أثناء الحرب الاهلية التي اقتتل فيها الإخوة. كيف ترى الثورة في الإبداع وهل نحتاج الى فترة لاعادة لكتابتها وما هو مستقبل الادب بعد ثورة يناير؟ يقول بهاء: تولوستوى تحدث في إبداعه عن غزو نابليون لروسيا بعد 50 سنة في روايته" الحرب والسلام".. لن يحدث تعبير أتوماتيكى للحظة، فما يكتب الآن من شهادات (لا أعتبره إبداعا ثوريا) وهو خامة للأدب الذي سوف يكتب مستقبلا، ولكن هناك التعبير المباشر للحالة جاء في قصيدة الأبنودى "الميدان" وكان تعبيرًا تلقائيًا وصادقًا عن مثقف مصري ناحية وطنه وهي أمثلة بالغة الندرة واستثنائية، وقرأت أعمال أخرى حاولت أن تفعل ذلك ولكنها لا تحقق نفس التأثير والتعبير الجيد عن الثورة سيتأخر. ويلتقط منه طرف الخيط د. مجاهد فيقول: ربما لأن الشعر يعتمد على الانفعال فهو الأقرب للتعبير عن للثورة وهو ما لا يمتلكه السرد. وقال أحد الحضور موجها كلامه لبهاء طاهر: لا أحد ينكر مفاجأة ثورة يناير، لكن الثورة بعد عامين لم يتحقق من شعارها شئ، ألست محبط مثلنا؟.. ألست محبطا لأن الثورة لم تحقق شعارها "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".. وما هو تعليقك عما قاله هيكل: الرئيس الذي سيحكم مصر لا بد أن ترضى عنه أمريكا وإسرائيل.. وهل تستطيع قوى الثورة أن تحمي وتبني نفسها بعيدا عن الرأسمالية والشركات عابرة القرات؟ يرد بهاء أنا دائما متفائل برغم كل ما يحدث.. نعم الثورة لم تحقق أي شئ من أهدافها والأسباب متعددة منها أخطاء المجلس العسكري والتربيطات مع التيار الإسلامي والأصابع الأمريكية.. ولقد استمعت بالأمس إلى حوار لنهى الزيني تحدثت فيه عن أصابع أمريكا التي كانت تتدخل في كل خطوات الثورة.. و قلت منذ بداية الثورة لا بد من الاستقلال الوطني بعيدا عن الهيمنة والثورة ستحقق أهدافها لقوة إيمان شباب الثورة.. وكل الثورات يحدث فيها انتصار وانكسار ولكنها تنجح في النهاية.