يري النقاد العالميون في تجربة "بيت الفن في الحرانية" انها حققت معجزة فنية برزت في منطقة ريفية مع اعتبارها عاملا فعالا لقيام حرمة حقيقية لبعث هذا الفن المصري الأصيل.. وإعادة كيان الفنان المصري القديم "الفرعوني" المعروف. وكل هذا التقدير يرجع إلي النتائج الباهرة التي تحقق علي أيدي أطفال الحرانية والذين احتفظوا بطفولة نظريتهم التشكيلية حتي بعد بلوغهم وتخطيهم سن الرشد.. ومن بين هذه النتائج تلك الثورة علي الطريقة التقليدية لصناعة النسيج التي تعتمد علي تطبيق رسوم هندسية أو أشكال طبيعية مرسومة أصلاً علي الورق قبل تنفيذها في النسيج. ولا يتحتم أن يقوم بتصنيعها شخص محدد بالذات.. وهي علي هذا الأساس تفتقد الشخصية الفنية الخلاقة. كما ترتفع الأهمية الفنية الخالصة لهذه التجربة بسبب طريقة تنفيذها التلقائية الفورية بغير تصميم مرسوم قبلا علي الورق. ولا شيء لدي الطفل عندما يبدأ العمل غير الفكرة تتفاعل وتتصارع في خياله. وهي تنمو خلال التنفيذ في تشعب علي السطح الذي يعالجه الطفل بأصابعه.. خلال نزع خيوط الصوف الملونة علي نول النسيج مباشرة حتي تصل إلي قمة الاكتمال. أما الأسباب الكامنة وراء هذه الحفاوة العالمية بتجربة أطفال فلاحين مصريين فهي تكمن في دأب وإصرار راعيها الراحل المهندس رمسيس ويصا واصف وزوجته من بعده السيدة صوفي حبيب جورجي الذين يؤمنان إيمانا راسخا بالملكات والمواهب الفنية الخلاقة لدي أطفال هذه البيئة البسيطة في الريف المصري وما تضمنته من إمكانيات واسعة بغير حدود في الابتكار والخلق إذا أمكن سد الاحتياجات الاقتصادية لهؤلاء الأطفال صغارا وكبارا. وتوفير خامات التصنيع علي أن نوفر لها حرية اختيار الوسيلة الأكثر طواعية للتعبير.. وإذا أمكن آخر الأمر توثيق العلاقة العاطفية بينهم وبين جميع مظاهر البيئة التي يحيون فيها وحمايتهم من زيف الثقافات التي تجرفهم إلي هاوية التقليد. وبالنسبة لأطفال الحرانية بالذات يتأكد في جميع الأعمال التي ينتجونها صدق التعبير وبعمق عن صور الحياة في تلك المنطقة العريقة من الريف النائم تحت سفح الأهرامات وبشكل لا يمكن أن يحققه فنان آخر من الذين يتوقعون إلي تحقيق حيوية وبساطة الفن البدائي. وجرأته وسذاجته. ولكنه يفشل بسبب قيود الدراسة الأكاديمية التي تحدد اندفاعاته الطبيعية وتعوقه عن تلقائيه التعبير. والسبب الآخر في نجاح تجربة الحرانية يقوم علي أساس الايمان بقيمة الإنسان وقدراته ودوافعه الفنية والطبيعية التي لا تتحقق إلا في جو من الحرية والطمأنينة. وقد أتيحت كل هذه العناصر المهمة لمجموعة من أطفال هذه القرية.. إذ توفرت في مجتمعهم البساطة وسرعة الاستجابة للطبيعة. وكانت مهمة رائد هذه المدرسة وزوجته التي تحمل الرسالة من بعده.. انهم عند اختيار أول دفعة من أطفال هذه المنطقة أن يعيشا معهم بكل طاقاتهما الإنسانية.. وأن يزوداهم بشحنات التشجيع وغرس حب الحرية في نفوسهم مع الصداقة والحب وحسن المعاشرة والمرح ودفعهم إلي الاستمتاع بوقت فراغهم في اللعب ثم توجيههم إلي العمل الجاد بعد ذلك كمورد للكسب المحبب.. فتكون مهنتهم هي حياتهم.. وقد أحضر لهم الأنوال ليعبروا من خلال خيوطها عن خيالاتهم وأحاسيسهم مع إعداد المكان المناسب الذي يتسع الآن لعشرات منهم. ووصلت التجربة إلي تمام نضجها بوصول هؤلاء الأطفال إلي درجة عالية من التمكن وارتفاع الخبرة اليومية التي اصطنعوها بأيديهم مما ساعدهم علي الوصول إلي درجة مثالية في التعبير عن كل ما يدور حولهم. فكانت لهم هذه الأشكال المنسوجة من واقع الطبيعة في قريتهم ومن حكايات ذويهم الفلاحين البسطاء.. ومن الأساطير والمعتقدات التي توارثوها. ثم التقاليد خلال الأفراح وغيرها من المناسبات. وهكذا ظهرت في لوحاتهم المنسوجة علي سجاد الحائط صور النخيل الذي يطاول المساء الطافية.. والمراعي والجنة والنار ثم الأبقار والجواميس والخراف والماعز والقطط والكلاب وغير ذلك. وتكاد روعة وقوة التعبير في أعمال أطفال الحرانية أن توحي للبعض باستحالة تحقيق تلك الأعمال في هذا النحو المعجز. وذلك بسبب المفهوم السائد عن عجز كبار الفنانين عندما يحد من إبداعهم الخوف من نقد الآخرين. انهم يقومون بتحقيق هذه الأعمال استجابة لدوافعهم الشخصية في التعبير وليس اتباعا لإحد المذاهب الفنية.. كما لا تفرض عليهم فكرة أو أسلوب. بل ان الفكرة تأتيهم من خلال بيئتهم وحوادث حياتهم.. أما الأسلوب فيتحقق من خبرتهم اليومية الخاصة خلال استمرارهم في العمل. ويقول "رمسيس ويصا واصف" وزوجته "صوفي" ان: الفكرة من إنشاء هذه المدرسة الفنية "الدار" هو اعتقادنا ان قيمة الحرية للإنسان تأتي عندما يتاح له في سن مبكرة أن يملكها ويشعر انه قادر علي مزاولتها لبناء كيانه.. وأن هذه الفكرة جديرة بأن توضع محل الاختبار.. وخاصة في مجال التربية الفنية. وقد ادخلت هذه التجربة إلي حيز التنفيذ منذ ثلاثين عاما مع أفراد قلائل في أنحاء مختلفة من مدينة القاهرة "يشيران بذلك إلي تجربة الفنان الرائد الراحل حبيب جورجي والد زوجته التي بدأها عام 001939" وبعد ذلك فكرنا في الابتعاد عن المدينة والتوجه إلي الريف. رغم وفاة المفكر الفنان والمهندس المعماري رمسيس ويصا واصف منذ عامين.. إلا أن زوجته تواصل الرسالة في بطولة وحب وتفاني بل وعن خبرة اكتسبتها من معايشتها لتجربة والدها ومن ممارستها كشريكة حياة لزوجها.