ضرب الإرهاب الأسود ضربته الجديدة هذا الصباح في قلب أوربا ، في العاصمة البلجيكية ، ونال كما هو معتاد من المدنيين الأبرياء ، وكان واضحا أن القصد هو قتل أكبر عدد ممكن ، سواء من الآمنين في مترو الأنفاق أو المسافرين في مطار بروكسيل ، كما كان واضحا أن الضربة هي رد فعل سريع على اعتقال القيادي الداعشي صلاح عبد السلام المتهم الرئيسي في تفجيرات باريس ، وفي كل الأحوال ، كان الإرهاب الأسود سيخطط ويضرب ، سواء اعتقل صلاح أو لم يعتقل ، وأتت الفاجعة الجديدة لكي تذكر العالم بأن الخطر يتمدد ويتسرب في كل مكان ، في آسيا وأفريقيا وأوربا ومن قبل في أمريكا ، ووصل إلى بلدان لم تكن تخطر على البال أن يطالها مثل بعض عواصم غرب ووسط أفريقيا . ما يحدث الآن من جرائم إرهابية مروعة يضعنا أمام حقيقة أننا بمواجهة "عولمة الإرهاب" إن صح التعبير ، وأصبح التحدي كبيرا ويستدعي بالتالي تفكيرا مختلفا في كيفية محاصرته وتقليص خطره ، ثم تجفيف منابعه ، تمهيدا لإنقاذ البشرية من شره ، وبدون أدنى شك فإن ضربة بروكسيل ومن قبلها ضربة باريس ومن قبلهم ضربة أنقره واسطنبول ، تؤكد أن أحدا في العالم لم يعد بمنأى عن خطر الإرهاب ، وأن دولة أو عاصمة لم تعد محصنة من خطر الإرهاب ، وبالتالي تفرض نفسها حقيقة أن الجميع مدعوون للحوار الجاد والصريح والأمين ، من أجل النظر في أسباب هذا الانفجار الإرهابي المذهل وبالتالي في الأسلوب الذي يمكن به إنقاذ البشرية ، كل البشرية ، منه . في عالم الطب عندما يخترق السرطان جسدا ، فإن العلاج لا يكون بمجرد اقتطاع هذا الجزء أو غزوه بالمواد الكيماوية أو ما شابه ذلك ، وإنما هناك منظومة علاجية ، تشمل دراسة التاريخ المرضي للعائلة التي ينتمي إليها المريض ، ثم وضع خطط تغذية تصحح معادلات في خلايا الجسم وتحرم السرطان من التغذية وتضعفه ، ثم العمل على تنشيط الجهاز المناعي للجسم وتقويته إلى أقصى درجة لمحاصرة الداء ثم عملية استئصال الجزء المصاب إن أمكن ، ثم تطهير ما حوله ، ثم وضع نظام هرموني على مدى زمني مناسب لمنع الانتكاسة وعودة هذا الوباء ، والقصد من هذا التشبيه ، أننا إذا كنا جادين في علاج سرطان الإرهاب ، فإننا لا بد أن نحترم كافة أبعاده ، وأن نضع المنظومة العلاجية الشاملة ، وليست الانتقائية أو الجزئية ، ومن البديهي أنك لا بد من أن تقطع أي جزء ظاهر من هذا الوباء كشرط أولي أو تستهدفه مباشرة أمنيا ، لكن أيضا لا بد من تحصين جسم المجتمع ، سياسيا وثقافيا واقتصاديا وقانونيا ، بما يضمن محاصرة هذا الداء ومنع تمدده أو أن يجد له حواضن اجتماعية أو سياسية ، وهذا ما يتهرب منه الكثيرون مع الأسف ، وقد تعبنا من التأكيد على أن استسهال بعض النظم السياسية للقمع الوحشي للمعارضين ، والاستبداد السياسي أو الديني ، والاستهانة بالانقسامات الاجتماعية أو العرقية أو الطائفية ، هي من الأسباب التي تضعف مناعة المجتمع وتجعله أكثر قابلية لاختراق الإرهاب وخلاياه ، وتجعل من هذه النوعية من المجتمعات بيئة مناسبة وحاضنة للإرهاب ، وفي ظل فضاء إنساني متداخل وعولمي وشديد التداخل تقنيا ومعلوماتيا وإنسانيا ودينيا ، يكون الجميع معرضا لآثار هذا التمدد الإرهابي أيا كان بلد منشأه ، وأيا كانت البيئة الحاضنة له . العالم كله اليوم أمام مسئولية إنسانية وأخلاقية مشتركة وإلزامية ، لنشر بل فرض ثقافة السلام والعدالة والديمقراطية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان الأساسية ، ومنع التجبر والأخذ على يد أي طاغية في أي مكان بالعالم يسترخص الدم الحرام أو يستبيح آدمية البشر ، لأن آثار جرائمه ونتائجها ستمتد إلى كل بقعة من الأرض وتصيب الأبرياء في أماكن كثيرة ، وأظن أن الدرس السوري كان واضحا ونموذجيا ، عندما تلاعب العالم بمحنة الشعب السوري ، واستسهل "الأرقام" التي تمثل جثثا لبشر من ضحايا بشار الأسد وطغمته الأمنية والعسكرية ، وكان يشاهد تدمير المدن والمستشفيات والمساجد والبيوت بالبراميل المتفجرة كما لو كان يشاهد فيلما سينمائيا هوليوديا ، وأظن أن الكثيرين في باريسوبروكسيل ومدريد ولندن وحتى في واشنطن ، هم أكثر اقتناعا اليوم بأن ما حدث في قلب أوربا هو بعض شظايا حرب بشار على شعبه ، بل هذا ما قالته بوضوح كاف "فيديريكا موجيريني" منسقة الأمن في الاتحاد الأوربي وهي تبكي في مؤتمرها الصحفي .