تعتمد وزارة الداخلية أساسًا على أمناء الشرطة، فعددهم يصل إلى 400 ألف أمين، وهو تقريبًا عشرة أضعاف عدد الضباط.. وهي نسبة تعطي الثقل الأكبر لقطاع الأمناء ما يجعلهم وفق معايير التأثير الجماعي، القوى التي تمثل جماعات ضغط، يحسب لها ألف حساب. الضباط قد يكونون في مقياس العجرفة هم الأسوأ، ولكن بقياس "الردع" المؤسسي الداخلي، فإن الأمناء يأتون في الصدارة. الداخلية كمؤسسة لا يقلقها الضباط، فهم الأقل عددًا، والأكثر ولاء لها، بحكم ما يحصل عليه الضابط من امتيازات ونفوذ وسلطة، وإضافة إلى رصيد عائلته من الوجاهة والنفوذ الاجتماعي.. وهم يحصلون على الحماية من المحاسبة حال الخطأ، من النفوذ العائلي للضابط داخل هيئة الشرطة ذاتها، فهو عادة يأتي إلى هذا الجهاز، محمولاً على أكتاف الأب أو الأخ أو العم أو الخال، وهم عادة ما يكونون قيادات أمنية لها وزنها داخل الوزارة. أما الأمناء فهم في الغالب ينحدرون من أصول طبقية أقل بكثير، تصل إلى أدنى من الطبقة الوسطى.. محملة بالتقاليد التي تفرزها المناطق الشعبية المهمشة والمحرومة والأكثر فقرًا ومعاناة.. تفتقر بخلاف الضباط إلى منطق الاستقواء بالعائلة أو بالنفوذ الاجتماعي والسلطوي، وعندما تنتقل للالتحاق بالشرطة "الأمناء"، فإن ذلك يعني عملاً منظمًا لتجميع فئات اجتماعية، عانت طويلاً من الحرمان والقمع الطبقي، والاستعلاء الاجتماعي من قبل الفئات المخملية الأكثر ثراء وغنى ويملكون أدوات تأديب كل من يعتقد أنه من الممكن أن تعلو يومًا ما العين عن الحاجب. وهي وإن كانت لن تجد فارقًا كبيرًا في علاقتها بالطبقات العليا، عندما تلتحق بالشرطة، بسبب الانحياز المؤسسي لطبقة الضباط الشريحة الممثلة للقوى الاجتماعية الأكثر ثراء ونفوذًا فإنه (أي طبقة الأمناء) تجد نفسها أمام أبواب مشرعة من السلطة بحكم المهنة، قد يجعلها تبحث بلا وعي عن أسباب استعاضة سنوات القمع والحرمان من خلال الأداء الذي يشكو منه المجتمع الآن. هذه هي القاعدة، وهناك استثناءات بالطبع، فبعضهم يتأثر بتقاليد المجتمع التراحمي، الموجودة في الأحياء الشعبية، ويمثلون الوجه الآخر الأكثر صلاحًا وطيبة داخل هيئة الشرطة. ولكن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن الإحساس بالانحياز المؤسسي للضباط، ولد شعورًا ملحًا بضرورة الاستقواء ب"الجماعة المهنية"، لإيجاد توازن قوى داخل وزارة الداخلية طلبًا للحماية، ودفاعًا عن المصالح، وهو الشعور الجماعي الذي ترجم عمليًا في احتجاجات الأمناء في محافظة الشرقية في أغسطس من العام الماضي 2015، ولقد تحركت الدولة بالكامل لاحتواء الأزمة.. لكن الإشارة الأهم والتي تحتاج إلى تدقيق وتأمل، هي أن مئات الأمناء انصرفوا إلى بيوتهم آمنين.. وإلى أعمالهم مشكورين، دون أن يعاقب متظاهر واحد منهم، رغم وجود قانون التظاهر الجديد الأكثر قسوة ووحشية في التعامل مع الاحتجاجات غير المرخصة من الداخلية. وفي تقديري أن الدولة لن تستطيع محاسبة أمناء الشرطة أو قمعهم حتى لو خالفوا القوانين المنظمة للعمل الشرطي وقانون التظاهر.. لأن الأمناء اكتشفوا أنهم الطرف الأقوى داخل الوزارة ولا تستطيع الأخيرة الاستغناء عن خدماتهم.. فعلينا أن نتخيل ما سيحدث، حال أضرب 400 ألف أمين عن العمل! إنها ظاهرة تشبه ظاهرة سائقي سيارات الميكروباص.. فهم يمثلون القوى الكبرى في وسائل النقل والمواصلات، التي تخدم عشرات الملايين.. ولو أضربوا عن العمل ستنكشف الحكومة وعجزها وقد يسقط النظام. فكما ساهمت الدولة المهملة في تأسيس دولة "التوكتوك والميكروباص".. فهي كذلك التي أسست جمهورية الأمناء. ويبقى أن نشير هنا إلى أنه لا يمكن إصلاح طبقة أمناء الشرطة، إلا في سياق رؤية سياسية وليست أمنية.. وهي الرؤية التي لن نتوقع أن نصادفها الآن.. لأن الدولة كلها يديرونها "أولاد الكار" حاليًا.. وما علينا إلا التحلي بالصبر الجميل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.