في العشر سنوات الأخيرة من حكم عائلة مبارك، لم تكن المشكلة في "توريث السلطة"، وإنما تحول توريث الوظائف في المهن ذات الوجاهة الاجتماعية إلى ثقافة مجتمعية. ففي حين كان ينتقد صحفيون نية مبارك توريث الحكم لنجله جمال، كانت المؤسسات الصحفية الحكومية، في مقدمة المؤسسات التي تنتشر فيها ظاهرة التوريث بنقل المهنة "صحفي" من الآباء إلى الأبناء.
ذكرت الصحافة كمثال، لأنها المهنة - بطبيعتها - التي كانت الأكثر حضورًا في نقد توريث السلطة.. وهذا لا ينفى أنها - أى ظاهرة التوريث - كانت أكثر انتشارًا فى مهن أخرى مثل الجامعات.. ومتأصلة كجزء من التقاليد المهنية فى مؤسستي الشرطة "الداخلية" والعدالة "القضاء". التوريث قد لا يكون له تأثير كبير فى بعض المهن الأقل والمتوسطة، خاصة تلك التى تفضل تعيين أبناء العاملين، وإن كانت تهدر مبدأ تكافؤ الفرص.. إلا أن التوريث يعتبر عملاً "تخريبيًا" خطيرًا، حال اعتمدته المؤسسات التي تتعامل مع "الرأى - الصحافة" ومع "العقل - الجامعات" ومع "العدالة - القضاء" ومع "الأمن - الشرطة".
تلك المؤسسات حال تحويلها إلى "مؤسسات عائلية" فإنه يستحيل إصلاحها، لأنه سيطرح سؤالاً: من سيحاسب أو يصلح من؟! فيما تهيمن شبكات عائلية واسعة على كل قنوات صناعة القرار داخل المؤسسة.. فهى - والحال كذلك - تتحول إلى مشروع عائلي يقوم على القرابة المعوقة لمفهوم الحداثة: فتخيل مثلاً أن يطلب من قاضٍ كبيرٍ فصل نجله وكيل النيابة لأنه ثبتت رشوته.. أو أن يطلب من مدير الأمن إحالة نجله الضابط الصغير، إلى الاحتياط لأنه ثبت في حقه تعذيب مواطن.. أو لتلقيه رشوة من تاجر مخدرات؟!
قس على ذلك في الصحافة والجامعات.. وفى كل مؤسسة تتحكم فيها العائلات وأصحاب النفوذ والقدرة على التأثير على صناع القرارات.
وفى التفاصيل فإن المسألة تبدو أعقد بكثير مما تبدو عليه فى الواجهة "التوريث".. فخلف هذه الواجهة، نظام يخضع لفلاتر طبقية وسلطوية داخل كل مؤسسة، فليس كل قاض قادرًا على أن يجد لنجله وظيفة فى النيابة.. وليس كل ضابط شرطة قادرًا على أن يلحق أحد أبنائه بكلية الشرطة.. وقس على ذلك أيضًا مهنتي الصحافة والجامعات.. هذا الفرز الطبقى يقوم على مبدأ "النفوذ" أو "السند الأقوى".. وهو ما يجعل غالبية من يعملون فى المهنة يتمتعون بمظلة حماية من المساءلة حيث يقف خلف كل واحد منهم "رجل كبير" أو "عائلة كبيرة".. مما يجعلهم أكثر جرأة في ارتكاب الأخطاء التى تصل إلى حد الجرائم، وهم مطمئنون وآمنون.. فلن يجرؤ أحد من الاقتراب.. وإذا "فاحت" الجريمة، وباتت قضية رأى عام، فإنهم ينحنون للموجة العالية إلى أن تهدأ.. أو إصدار قرار بحظر النشر، ويا دار ما دخلك شر. وهذا يعتبر أكبر عائق فى إصلاح هذه المؤسسات.. بعد أن تراكمت وباتت "مراكز قوى" منتشرة أفقيًا ورأسيًا، ما يجعلها في حالة تنظيم وتناغم جماعي، تستعصي معه الحلول التقليدية والتي تعتمد على الشعارات والإفيهات المعلبة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.