في أهم برنامج في تليفزيون الدولة الرسمي أمس ظهرت المذيعة وهي تنفخ غضبا مصطنعا من أنفها وتعلن أنها ستوجه عدة أسئلة ضرورية للمستشار هشام جنينه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ، وهي أسئلة لا يمكن أن يجيب عليها سوى جنينه نفسه ، من مثل : ما هو شعورك الآن بعد أن كشفت لجنة تقصي الحقائق أن بيانك كان تضليلا ؟ ، وسؤال آخر : هل ضميرك مستريح الآن بعد أن شوهت سمعة بلدك ؟ ، هذه المقدمة النارية تجعلك تتحفز في جلستك وأنت تنتظر ظهور المستشار جنينه كضيف بديهي ليبرر موقفه أو يرد على الأسئلة "النارية" للمذيعة ، ولكن المفاجأة أن يظهر لك المحامي المعروف ولاءا وتاريخا وسيرة "شوقي السيد" لكي يهاجم المستشار جنينه ويكيل له الاتهامات ، وبطبيعة الحال ، سيكون من العبث أن تسأل هنا عن المهنية أو القواعد الإعلامية البديهية ، لن تسأل عن تغييب من وجه إليه السؤال وهو رئيس جهاز سيادي يتبع رئاسة الجمهورية ، لأنك لا تتحدث عن إعلام حر وإنما عن إعلام الريموت كونترول ، فهكذا طلبت منهم الجهات التي تدير الحملة على هشام جنينة ، وهكذا حددت لهم ما يقولون ومن يستضيفون للكلام . من يتابع الفضائيات المصرية الخاصة والرسمية ليلة أمس سيذهل من روعة أداء "المايسترو" الذي ينظم الأعمال بين الجميع ، وانضباط الشاشات ومن يجلسون فيها ، نغمة واحدة وأداء متطابق وعبارات شبه واحدة ، كلها في اتجاه المطالبة بعزل هشام جنينه وتقديمه للمحاكمة وتأديبه على "تطاوله" طبعا ، وحتى البرلمان الذي سارع بمنع بث جلساته لستر عوراته ، لم يجد قضية يتحدث فيها زعماؤه أمس سوى أنهم يعملون على إحالة هشام جنينه للنيابة ، فقد أصبح الرجل هو أخطر شخصية على النظام ليلة أمس ، وفي الليل كانت الطبعات الأولى من الصحف الرسمية والخاصة الموالية تنشر "المانشتات" الموحدة تقريبا ، وبلغة واحدة ، وكلها تحمل التشهير بهشام جنينه ، وكأنك تقرأ نسخا متعددة من صحيفة واحدة . هناك شخصيات وجهات وأجهزة ومؤسسات في الدولة ، من الذين ضبطهم الجهاز المركزي للمحاسبات متلبسين بالفساد أو اهدار المال العام أو اغتصاب المال العام وأراضي الدولة ، متعجلون للغاية لذبح هشام جنينه ، على طريقة : نتغدى به قبل أن يتعشى بنا ، وإذا ذهب جنينه فلن تسمع بعد اليوم أي حديث عن الفساد أو إهدار المال العام في مؤسسات مثل الداخلية والمخابرات والأمن الوطني والنيابة ووزارة العدل وغيرها ، كل سنة وانت طيب ، أو كما قال رئيس مجلس إدارة نادي المحاسبات أمس : دقت طبول الحرب لعزل هشام جنينه ، واقروا الفاتحة على مال الدولة والبقاء لله فيه !! ، وطبيعة المركزي للمحاسبات كجهاز رقابي مهمته التنقيب عن الخلل والانحرافات في أعمال تلك الجهات الرسمية ، تجعله جهة غير صديقة ولا مريحة لمختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها ، لكن الأمر زاد مع هشام جنينه نظرا لشجاعته ونزاهته الكاملة وغياب فكرة المحاباة لديه على حساب المال العام ، أيا كانت الجهة المتورطة في إهداره ، ولذلك كان رأسه مطلوبا للجميع ، وإذا سقط سيتفرق دمه في القبائل . حملة التشهير التي عممت حالة تجهيل على الرأي العام تتحدث عن تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات بوصفه تقرير هشام جنينه ، بينما الرجل ليس له من الفضل فيه سوى الجرأة على إذاعته فقط ، فالرجل ليس محاسبا بالأساس ولا يعمل في البحث والرقابة المالية ، وإنما هذا جهد مئات الباحثين الذين ينتدبهم الجهاز لمتابعة أعمال وزارات وأجهزة ومؤسسات رسمية من واقع المستندات الخاصة بها ، ثم يتم مراجعة عملهم ثم بلورته في عناوين نهائية ، وملفات موثقة بالمستندات ، لا دخل لهشام جنينه فيها أصلا ، لكنه صاحب قرار إحالة نتائج تلك التقارير للجهات المختصة ، ولكن حملة التشويه تصور الأمر كما لو كانت لعبة جنينه شخصيا ، أيضا ، حملة التشهير التي تعمم الجهالة في الرأي العام تساءلت بخشوع ، لماذا لم يرسل تلك التقارير للجهات المختصة ، رغم أن الرجل أعلن مرارا وتكرارا أنه أرسل نسخا من التقارير بصفة منتظمة لرئاسة الجمهورية ، كما أرسل العام الماضي وحده حوالي تسعمائة وتسعين ملف فساد إلى مكتب النائب العام ، لم يتحرك منهم إلا قليل ، وهذا القليل تم حفظه دون إعلان أسباب ، فكان لجوء الرجل إلى الرأي العام ضرورة أخلاقية ووطنية ، وأيضا قاعدة دستورية تلزمه بذلك في حالة غيبة البرلمان ، الممثل الشرعي للشعب ، وبعد انعقاده سيتم عرض تلك التقارير على البرلمان ، كل هذه الحقائق يتم تجهيلها ، لأنها تكشف الخدعة والمؤامرة التي يديرها "المايسترو" خلف الستار من أجل ذبح الرجل الشريف . اللجنة المزعومة عن تقصي الحقائق كانت أغرب لجنة يمكن أن تقابلها في حياتك ، تخيل أن تكون متهما بتهمة فإذا بالجهات الرسمية تطلب منك وأنت المتهم أن تحقق في التهمة الموجهة إليك ثم تبارك لك أنك وصلت إلى إعلان براءة نفسك ، هذا بالضبط ما حدث مع تلك اللجنة ، لأنها كانت مشكلة من عضوية وزارة الداخلية ووزارة العدل ووزارة المالية ووزارة التخطيط ، وكل هذه الوزارات هي المتهمة أساسا بإهدار المال العام في تقرير الجهاز المركزي ، فأوكلوا إليهم التحقيق مع أنفسهم !! ، إضافة إلى نائب لرئيس الجهاز تم تعيينه قبل عدة أسابيع بقرار مفاجئ وغريب من رئيس الجمهورية ، وعلى الرغم من حديث اللجنة عن مبالغات تقرير الجهاز المركزي وعدم دقته عن أرقام الفساد وأنه تقرير مضلل كما زعموا ، إلا أن اللجنة تهربت من مسئولية إعلان الأرقام الصحيحة التي تراها دقيقة عن الفساد ، حسنا ، هو ليس ستمائة مليار جنيه كما أعلن هشام جنينه ، إذن هو كم مليار أيتها اللجنة الموقرة ، هل تملكون الشجاعة لإعلان الأرقام الدقيقة للفساد ، طالما أن ما أعلنه هشام جنينه ليس دقيقا ، لن يعلنوا ، وأتحداهم أن يعلنوا ، هي لجنة كان لها هدف واحد ، هو إهانة هشام جنينه والتمهيد لذبحه ، وجعله عبرة لأي جهاز رقابي يرفع عينه في "الكبار" و"السادة" الذين أعلنوا بصريح العبارة وعبر شاشات التليفزيون أنهم "سادة" وغيرهم في هذا الوطن عبيد . ما لا يدركه السيسي أن خسارته لشخصية مثل هشام جنينه هو خسارة فادحة لنظامه وتشويه كبير لدولته أمام العالم ، على عكس ما يقوله المضللون من أن تقريره يسيء للدولة ، فالعالم كله يعرف أن في مصر فسادا ولا ينتظر تقرير جنينه لكي يعرف ذلك ، والمستثمرون الأجانب ليسوا دراويش لكي يعرفوا حال البلد من نشرة أخبار القناة الأولى في تليفزيون الدولة ، وجهات دولية عديدة نشرت تقارير عن الفساد ، ولكن هيبة النظام واحترامه في العالم يأتي من وجود جهاز رقابي صارم مثل الجهاز المركزي للمحاسبات ويقوده قاض جليل مثل هشام جنينه ، ويرى العالم كله كيف يقوم هذا الجهاز بملاحقة الفساد ويقدم لرئيس الدولة التقارير الموثقة التي تساعده على تجفيف منابع الفساد وتضييق مساحاته ، وهذا يعزز موثوقية الدولة أمام العالم بما فيه المستثمرون الأجانب ، ويعطي الانطباع بأن الدولة جادة وتسير في طريق التصحيح ، فإذا تمت الإطاحة بهشام جنينه ، وبتلك الصورة المتدنية والظلامية ، فالعالم كله سيدرك أن الدولة المصرية تغرق في ظلام الفساد ، وأنه لا أمل في انتشالها من هذا المستنقع ، وتفتقر إلى المؤسسات التي تراقب المال العام وأن أي صوت أو جهاز يتحدث عن الفساد يتم قمعه وذبحه ، وهذا كله يفقد الثقة في مصر واقتصادها واستقرارها المالي أيضا ، ويمثل مناخا طاردا للاستثمار الجاد .