في مقال أمس قلت إن الغرب لا يهتم بالدفاع عن "المسيح" عليه السلام إذا أسئ إليه حتى يهتم بالدفاع عن "محمد" عليه الصلاة و السلام ، إذ لا يهم الغرب ولا يستفزه إلا إذا أضير في "جيبه" أو "كرشه" ! و مع ذلك فإن هذه ، و التي اعتبرها حقيقة من وجهة نظري ، لا تعني أن الغرب لا يهتم بالمسيحية ك"هوية" .. فالعلمانية قد توجد "جماعة سياسة" أو تيارا سياسيا .. و لكنها لا تصنع "أمة".. العلمانية مشاع قد يصطبغ بصبغته كل الامم الصيني و الهندي و المنغولي و الفرنسي و البريطاني و الامريكي و غيرهم و لكنها لا تحفظ لأحد هوية أو خصوصية .. و الأمة أكبر و اهم و أوسع من مفهوم الجماعة السياسية أو التيار السياسي . و بقاء الأمة يرتبط بالبقاء و الحفاظ على هويتها من الذوبان أو التهميش أو التهجين ومن كل ما ينزع عنها تباينها و تمايزها عن الآخرين . و على الرغم من أن الغرب لا يهتم بالمسيحية العقدية إلا أنه لا يغفل عن أهمية و استراتيجية "المسيحية الحضارية" .. على أساس انها هي التي تعطيه الاحساس ب الهوية و التمايز الحضاري و الثقافي .. و من هنا فهو في الوقت الذي لا يضيره الاساءة للمسيحية العقدية كما بينت آنفا ، فإنه يشطاط غضبا و قلقا إذا ما شعر بتهديد حقيقي ل"هويته المسيحية" أو ل"المسيحية الحضارية" . هذه "الحقيقة" لا يكاد المرء يلاحظها إلا في أوقات الازمات الكبيرة .. مثل تزايد عدد المهاجرين المسلمين أو انتشار "الشارات" الاسلامية في المدن الغربية ، مثل الحجاب و غير ذلك . و لا يستخفن أحد هنا بدلالة "الرمز" أو الشارة فهي تحمل دلالات ثقافية و حضارية مغايرة . و في هذا السياق كان من اللافت أثناء احتدام الجدل بشأن ما عرف ب"أزمة الحجاب" في فرنسا ، انشغال مراجع إسلامية لها مكانتها ووزنها في مجالي الفكر و الدعوة فيما افترضته بأنه "سوء فهم" وقعت فيه باريس بشأن الحجاب ، عندما أنزلته منزلة الشارات الدينية الأخرى مثل "الكيبة" عند اليهود و "الصليب" عند المسيحيين . و صرفت جل جهدها في إثبات أن الحجاب ليس "رمزا" و إنما "فريضة" ، و كأن القرار الفرنسي يمكن تعليقه ، متى تبين للإدارة الفرنسية ، أن تخلّي الفتاة المسلمة عن حجابها ، سيكون مدعاة ل"غضب الرب" !! و الحال أن القضية في مضمونها لم يعوزها الاستيضاح حول ما إذا كان الحجاب "فريضة" أو محض "شارة" لا تستوجب إثابة بإتيانها و لا عقابا بتركها ، و في الوقت ذاته لم تكن كما ادعت باريس خوفا فرنسيا على علمانية الدولة . فلا الافتراضات الأولى كانت صحيحة ولا الادعاءات الثانية كانت حقيقة ، و الدليل على هذه و على تلك ، أن فرنسا صدت أية إمكانية للحوار ، و ذهبت إلى أبعد من ذلك ، عندما قررت أن يمتد مشروع القانون الذي ادعت في بادئ الأمر ، بأن الهدف منه حماية القاصرات في المدارس ،من أي شكل من أشكال الإكراه الديني ، الذي يمكن أن تمارسه الأسرة أو الجماعات الإسلامية المتشددة عليهن ليشمل حتى العاملات في مرافق الدولة المختلفة !! و الحقيقة أن الحكومة الفرنسية نجحت في أن تجعل الجدل عند هذه الحدود بمس القضية مسا سطحيا و ذلك بحشر الرموز الدينية اليهودية و المسيحية مع الحجاب ، فشغلت المسلمين ببيان أن الحجاب شئ مختلف من جهة ، و بدت باريس و كأنها مبرئة من شبهة التحيز و أنها تريد فقط الحفاظ على "حيدة الدولة " تجاه كافة المعتقدات من جهة أخرى ، لتضيع الحقائق خلف هذا التسطيح و التبسيط للقضية برمتها و غدا نستكمل الحديث بإذن الله تعالى [email protected]