العالم الغربي "المسيحي" لم يغضب من فيلم " دافنشي كود" ، أنا لا أتحدث عن رجل الدين الرسمي أو عن الكنيسة ، فإذا غضبا فان ذلك جزء من مناط وظيفتهما ، ولكني أتحدث عن الرأي العام المسيحي في أوربا والأمريكيتين وغيرهم.المسيحيون دفعوا من جيوبهم 224 مليون دولار في الأسبوع الأول من عرضه ، وذلك وفقا للأرقام التي نشرتها شركة "اكزيبيتور ريليشن" المتخصصة في هذا المجال . وكما قلت في مقال سابق إن العالم المسيحي ، أقبل على شراء الرواية قبل تحويلها إلى فيلم سينمائي ، اقبالا منقطع النظير ، رغم أن "دان براون" في روايته اعتمد على فكرة أن المسيح عليه السلام بشر مثل الناس أقام "علاقات جنسية" وأنجب ذرية لازالت تعيش بين ظهراني العالم حتى الآن ، وهي الفكرة التي تناقض العقيدة المسيحية في صيغتها المعاصرة والتي تعتقد بألوهية المسيح عيسى بن مريم ! المشهد كما نتابعه يوميا في العالم الغربي المسيحي ، يبدو لنا وكأن المسيحيين الغربيين "سعداء" بسماع هذا الكلام ، وكأنهم كانوا ينتظرون سماعه ! وفي تقديري أنه ربما يكون ذلك جزءا من الحقيقة ، ولكن ما أظنه أقرب ما يكون إلى ملامسة الواقع ، هو أن الغرب بعد رحلته الصدامية الطويلة والدامية مع الكنيسة ، تحت لافتة الثوار الفرنسيين "أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" ، لم يعد في "الوعي" أو "اللاوعي" الجمعي ، يعبأ بالمسيحية "العقيدية" ، إذ لم يعد يعنيه ما إذا كان المسيح صلوات ربي وسلامه عليه إلها أو بشرا .. شخصية حقيقية أو أسطورية ، بل تعاطى الرأي العام الغربي مع غالبية ما كُتب أو أُنتج سينمائيا بمضمون يعرض حياة المسيح ، بما يناقض الكتاب المقدس ، بمثل ما استقبلوا به فيلم "سبارتوكس" ! هذه حقيقة .. لن تستعصي على الباحث المدقق في ذلك الشأن ، ومع ذلك فإن الغرب لايقبل المساس ب"المسيحية الثقافية" أو "الحضارية" التي تؤسس لهويته وتميزه الحضاري أو الثقافي . ولذا نلحظ تساهله مع "الإساءة للمسيح" ويتشدد ويشتاط غضبا ، إزاء تنامي "ظاهرة الحجاب" ! لأن الأخيرة تمثل تحديا يهدد "هويته " التي يستقيها من "المسيحية الثقافية" أو الحضارية . فالمسيحية في العالم الغربي ، ولأسباب تاريخية مفهومة ، تحولت إلى "هوية" وليس إلى "دين " ، ولكن من المؤسف حقا أن تنتقل الظاهرة إلى المسيحية الشرقية ، وإلى أقباط مصر كما بينت الأحداث الأخيرة ذلك بجلاء. فمنذ تولى البابا شنودة الكرسي البابوي عام 1972 ، بدأت المسيحية ك"دين" تتراجع لصالح المسيحية ك"هوية" ، حيث تعالت الأصوات التي تفرق الشعب المصري ، إلى أقباط "أبناء مصر الأصليين" وإلى مسلمين "العرب الغزاة" الذين ينبغي أن يعودوا من حيث أتوا ، وهو فرز لا يستند إلى "العرق" وإنما إلى "الدين" بعد أن تحول إلى "هوية" ! قد لاتبدو هذه الظاهرة جلية للعوام أو حتى للباحثين ، غير أنها تظهر بجلاء في المحكات والتجارب الحية على الأرض ، ولنذكر هنا على سبيل المثل ، كيف لم يتحرك الأقباط لا على مستوى العامة أو النخبة أو الكنيسة للاعتراض على هتك حرمة "كنيسة المهد" بالخليل التي شهدت ميلاد المسيح عليه السلام ، وهي تمثل في العقيدة المسيحية أقدس مكان على الأرض ! فيما حركتهم الكنيسة للتظاهر والاحتجاج العنيف والصاخب ، بلغ مبلغ الاستغاثة بشارون ، بسبب تحول زوجة أحد الكهنة أو القساوسة إلىالإسلام أو لزواج مسيحية من مسلم أو لنشر تحقيق صحفي للانحرافات الجنسية لقس خليع ومشلوح ! إن تأمل هذه الظاهرة والتي تكررت كثيرا ، تشير إلى التحولات الجوهرية والبنيوية العميقة التي أحدثها البابا شنودة في ضمائر وقلوب وعقول المسيحيين ونظرتهم إلى المسيحية ، إذ لم يعد يغضب القبطي المصري للمسيح أو للمسيحية كدين وكمقدس وإنما يغضب للكنيسة التي حلت محل "المقدس الديني" باعتبارها الملاذ والملجأ الذي يحميهم من الذوبان في هوية الآخر المسلم ! وهذه أكبر خطايا البابا والتي تحتاج منا إلى تفصيل في مقال لاحق إن شاء الله تعالى . [email protected]