بعد مسيرة طويلة طويلة بطول الحياة وعرض الزمان؛ عايش فيها سنوات الانكسار وأعوام الانتصار، واطلع فيها على سائر المذاهب والفلسفات والأيديولوجيات، وأشرف على الرسائل العلمية، وشارك في مئات الندوات والمؤتمرات، وقرأ آلاف الكتب والمراجع، وخاض شتى المعارك الأدبية والفكرية، وانتصر على فلول العلمانيين وبقايا الماركسيين، وإخوانهم في الرضاعة! لقد شرّق وغرّب، وتوغل في بواطن المدن وحافات البوادي، من دلهي إلى وهران، ومن شمال الأناضول إلى أدغال أفريقيا .. فالتقى الساسة والمفكرين والعلماء، كما صاحب البسطاء والباعة الجائلين! وقد شغل الدكتور عويس- مناصب كثيرة، منها: نائب رئيس الجامعة الاسلامية الدولية، ومستشاراً لوزير الحج السابق، كما تولى رئاسة تحرير مجلة (التبيان) التي تصدرها الجمعية الشرعية بالقاهرة. وكان عضواً في كثير من المجامع والمؤسسات العربية والاسلامية، مثل: المجلس الأعلى للشئون الاسلامية بالقاهرة، والمركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، ورابطة الأدب الاسلامي العالمية، وعضو اتحاد الكتاب بمصر، وغيرها. أجل! فقد أنفق –الكاتب الاسلامي- عمره كله مجاهداً باللسان والقلم، فألقى مئات المحاضرات، والدروس، وتنوعت مؤلفاته لتشمل التشريع الإسلامي، والدراسات القرآنية، والأدب، والتاريخ، والفلسفة، وغيرها حتى بلغت حوالي سبعين كتاباً. لعلَّ أبرز ما كان يميز علاقتي بالأستاذ الكبير؛ النقاش الحاد، والحوار الساخن، خاصة في القضايا التاريخية، والمسائل الفقهية والعلمية، أذكر أننا كنا نستمع لتلاوة من سورة القصص، فسألني: لماذا قال القرآن الكريم (ولكن أكثرهم لا يعلمون) بينما قال في سورة يوسف: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)؟ قلتُ له: هذه لفتة جميلة، أجبني عنها بالله عليك. فقال: لنْ أعطيك الإجابة بسهولة! بعد قليل سألته: ترى لماذا قال: (ووجد من دونهم امرأتيْن تزودان) ولمْ يقل (فتاتيْن)؟ فقال: هذه لفتة جميلة، أجبني عنها يا هذا. فقلتُ له: لن أعطيك الإجابة بسهولة! فضحك بصوتٍ عال، وقال: هذه بتلك! سكت برهة، ثم قال لي: مادمتَ تجيد المبارزة الكلامية، فأخبرني: لماذا قدّم (علّم القرآن) على (خلق الإنسان) كما جاء في سورة الرحمن؟: قلتُ له: سأجيبك عنها بشرط أن تجبني: لماذا قال: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) من أنهما لا يستخرجان إلاّ من الماء المالح؟! فقال: لوْ أجبتك ماذا أنت صانع؟ قلتُ: لنْ أجادلك بعد اليوم. فقال: لا تجادلنا .. ولا نجادلك! على الرغم من الحدة التي كانت تعتري –أستاذنا- في بعض الأحايين؛ إلاّ أنَّ النكات والمِلَح والطرائف لا تفارقه أبداً! منها على سبيل المثال: أنني غِبتُ عنه فترة طويلة، فسألني أين اختفيت؟ قلت له: كنتُ مشغولاً بإنجاز موسوعة "أعلام الصعيد في القرن العشرين". فقال على الفور: هل أنا منهم؟ قلتُ له: لا .. لأنك لستَ من الصعايدة، بلْ علاقتك بالصعيد كعلاقة امرئ القيس بالكمبيوتر! فتبسم ضاحكاً، وقال: هناك رواية تشير إلى أن أحد أجدادي عاش في الصعيد! بلْ هناك رواية أخرى ينقصها السند تقول: إنه عاش ومات في الصعيد الجواني!! الحق أقول: هنالك حكايات ومواقف لا تحصى بيني وبين هذا العالِم الكبير، لكن الموقف الذي لا أنساه؛ أنني عندما أهديته كتابي (مُحمَّد مُشتهَى الأمم) وكان وقتها طريح الفراش؛ انتفض قائماً، وراح يضم الكتاب إلى صدره بقوة، ويُقبّل كلمة "مُحمَّد" مرات ومرات، حتى أجهش بالبكاء!! لقد رحل –شيخنا- ليرتاح من عناء الدنيا، وضيق حواريها، وجوْر ساكنيها، فصعد إلى جنة عالية قطوفها دانية! ليُحلَّى فيها بأساور من ذهبٍ ولؤلؤا ولباسه فيها حرير! فحيّ على جنّاتِ عدنٍ فإنها منازلنا الأُولى وفيها المُخيّمُ!